Skip to main content

كلمة رئيس المكتبة الوطنية عيسى قراقع في احتفالية يوم الوثيقة العربية 17/10/2024 (القاهرة – جامعة الدول العربية)

كلمة رئيس المكتبة الوطنية عيسى قراقع في احتفالية يوم الوثيقة العربية 17/10/2024

القاهرة – جامعة الدول العربية

 

بداية أتقدم بالشكر والتقدير للأمانة العامة لجامعة الدول العربية على تنظيم الاحتفالية السنوية بالتعاون مع الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف والّلذان يُعززان الاهتمام بالموروث الثقافي والتاريخي العربي والوعي بأهمية الوثيقة كجزء أساسي من الهوية والذاكرة والتاريخ المشترك للشعوب العربية والإسلامية.

نلتقي اليوم وقد مرَّ عام وأكثر على حرب الإبادة الجماعية والعدوان الدموي على قطاع غزة وعلى سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبات واضحًا أمام محرقة غزة، أن هذه الحرب ليست حربًا تقليدية ككل الحروب، وهي أكبر من إبادة جماعية كما قالت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة يوم5/10/2024، إنها حرب للقضاء والإهلاك والإفناء الإبادي للفلسطينيين، المحو والتطهير وشطب المكان والزمان الفلسطينيين، التاريخ والهوية والذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، إنها جرائم فاقت جرائم النكبة عام 1948، بل وفاقت مشاهد تدمير المدن في الحرب العالمية الأولى والثانية، بل وفاقت هجوم التتار على بغداد عام 1258م.

إن الفلسفة الصهيونية الفاشية والعنصرية التي تقف وراء هذه الحرب الدموية المستمرة لا تتم في الحيز الجغرافي أو الديمغرافي فقط، بل في حيزي الوعي والذاكرة، إنها إبادة ثقافية لطرد التاريخ الفلسطيني من الوعي وإسكاته في الماضي والحاضر والمستقبل، وتنفذ هذه الإبادة غير المسبوقة بمنهجية وتخطيط لحرق غزة المدينة الكنعانية التي بُنيت منذ أكثر من 3000 عام ق.م، والتي تزخر بتاريخ عميق وعريق من الحضارات الإنسانية المتعاقبة عبر العصور.

السيدات والسادة: إن إبادة الممتلكات الوطنية الثقافية الفلسطينية، وتدمير المواقع التاريخية لا تقل خطورة عن إبادة الناس والمدن والقرى والتهجير والطرد وارتكاب المذابح بحق الشعب الفلسطيني عام النكبة 1948، بل استمرارا لسياسة السطو والنهب والسرقة وطمس التراث والتاريخ الفلسطيني وتشويهه وتزويره وعبرنته، وإنتاج رواية مختلقة لصالح الرواية التوراتية الاستعمارية، ولهذا تأخذ الجرائم الثقافية التي تتعرض لها غزة طابع العنف الأيديولوجي الهائج، وهي ذات طابع بنيوي وحشي يذكرنا بالعصور الهمجية والبربرية، والمفارقة أنها تجري على مسمع العالم وأمام الكاميرا وفي القرن الواحد والعشرين وفي عصر الديمقراطيات والثقافة والحريات وحقوق الإنسان.

وقد تبدو هذه الجرائم الوحشية متوارية تحت غطاء سير العمليات العسكرية والقصف الصاروخي والمدفعي المتواصل، ولكنها واضحة على الأرض وأكثر وضوحا في التعليمات والخطابات والتصريحات الإبادية للمسؤولين والجنرالات الاسرائيليين الذين هددوا منذ السابع من أكتوبر 2023 بتحويل غزة إلى مكان لا يصلح للعيش، وبإعادتها إلى العصور الحجرية، مستندين في ذلك إلى معتقدات وأساطير فاشية وخرافية عن ما يسمى حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام، وحرب أبناء الحضارة ضد أبناء الهمجية، وحرب ضد الحيوانات البشرية، والدعوات لإبادة العماليق ونسلهم، والتهديد بإلقاء قنبلة نووية على غزة، واعتبار هذه الحرب حرب وجودية أي أن وجودهم مرتبط بعدم وجود الفلسطينيين واستئصالهم، ولهذا خلال عام من الحرب أبادت اسرائيل ما يقارب 6644 عائلة كليا أو جزئيا ومنها ما يقارب 1000 عائلة شطبت من السجل المدني بشكل كامل.

السيدات والسادة: هذه الفلسفة الإرهابية المستمدة من تاريخ الغرب المتوحش، ومن مقولة وزير التعليم الإنجليزي في الهند عندما قال: إذا أردت أن تقهر هذا البلد – ويقصد الهند – وتسيطر عليه فعليك أن تكسر عموده الفقري وهو لغته وثقافته وتراثه الروحي، وهاهي غزة تتحول إلى أنقاض وركام وتشطب من الخارطة، وكأنه لم يكن يعيش فوق أرضها أي إنسان سابقا، وقد وثقت المؤسسات الفلسطينية والدولية تدمير أكثر من 207 موقعا تاريخيا وأثريا وثقافية فلسطينيا في قطاع غزة من أصل 325 موقعا في عموم قطاع غزة، ومن بينها مواقع مدرجة على مواقع التراث العالمي والحماية المعززة، وقد دمرت هذه الحرب عشرات المعالم الأثرية من مساجد وكنائس تاريخية ومقامات وتلال أثرية ومكتبات، ودمرت أسواق ومقابر ومبانٍ تاريخية قديمة، ومدارس وجامعات ومتاحف وقلاع، وأحياء شعبية ومطابع ودور نشر ومراكز تعليمية وثقافية ومشاغل الحرف اليدوية والشعبية والمنشآت السياحية ومؤسسات الإنتاج الإعلامي وغيرها، أدى كل ذلك إلى تدمير وحرق المئات من الأرشيفات والمخطوطات والوثائق والسجلات والتحف الأثرية وطال التدمير حتى الأرشيفات الخاصة والعائلية، وتدمير الذكريات الحميمة للناس والتي كانت جميعها شاهدا على تاريخ غزة الثقافي والحضاري الحافل والممتد طيلة قرون عديدة، وهي محاولة لدثر الشواهد التاريخية والعمق التاريخي الفلسطيني وما صاحب كل ذلك من نهب وسطو وسرقة جنود الاحتلال للكثير من الكنوز والممتلكات الثقافية الخاصة والعامة من المنازل والمؤسسات والمراكز الثقافية.

السيدات والسادة؛ هل هي الإبادة المعرفية والتعليمية بتدمير 80% من المدارس والجامعات في قطاع غزة؟ المحو الممنهج للتعليم بالقتل أو الإعتقال، حيث قتل 130 استاذا جامعيا بما فيهم رؤساء جامعات وعلماء وفيزيائيون حصلوا على جوائز عالمية، قتل في هذه الحرب 127 صحفيا و 45 مفكرا وكاتبا وشاعرا وفنانا ومسرحيا وروائيا، وقتل 11000طالب و500 معلم ومدير مدرسة، وتستهدف هذه الإبادة المعرفية فقدان الذاكرة التاريخية والسياسية والاجتماعية، هذه الحرب لا تشن ضد الاجساد فقط بل أيضا ضد التاريح والذكريات، تستهدف كل المؤسسات الثقافية والأرشيفية التي يتم فيها الحفاظ على تاريخ الشعب وهويته الجمعية ونقلها للأجيال الحالية والمستقبلية، هل هو عنف النسيان المنظم؟ الانقطاع في سرد القصة الفردية والجماعيةوالانقطاع في الزمن والعلاقات الإنسانية وهدم الجسور بين الحاضر والماضي والعالم الإنساني.

السيدات والسادة، هذه الحرب الأوسع والأكثر دموية ضد الشعب الفلسطيني ما زالت مستمرة بلا قيود وبلا روادع وبتقاعس من المجتمع الدولي، وانتهاك صريح وفاضح للقانون الدولي واتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، كاتفاقية لاهاي عام 1954 وملحقاتها، واتفاقية جينيف الرابعة 1949، وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، وتوصيات محكمة العدل الدولية، وقرارات وتوصيات اليونسكو، مما يضع العالم أمام تساؤلات كبيرة في ظل استمرار الإبادة الثقافية والإنسانية، فالقوانين الدولية لم توفر الحماية لغزة ولم تستطع وقف الحرب والمجازر، وفي ذات الوقت لم نجد دورا جديا وفاعلا من المنظمات والهيئات الدولية في حماية التراث الثقافي في غزة، لا الأمم المتحدة ولا اليونسكو ولا الصليب الأحمر، ولا للجنة الدولية للدرع الأزرق، ولا المجلس الدولي للمتاحف، ولا المجلس الدولي للمباني والمواقع الأثرية، ولا الاتحاد الدولي لجمعيات المكتبات، ولا منظمة متحدون من أجل التراث ولا مجلس الأمن، ولم نلمس جهودًا حقيقية من قبل اليونسكو لاخطار حكومة الاحتلال بوقف عملياتها العسكرية على الممتلكات الثقافية في غزة وإرسال إحداثيات بذلك، لم نلمس تحركات من اليونسكو كالتي قامت بها في يوغسلافيا السابقة وفي أفغانستان وروندا وأوكرانيا ومالي، لم تعقد المؤتمرات الدولية كالتي عقدت بخصوص تدمير التراث الثقافي في أوكرانيا، ولم تنخرط اليونسكو في تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية بتزويدها بالوثائق والمعلومات عن التدمير الثقافي في قطاع غزة مثلما فعلت عام 2012 بخصوص تدمير التراث الثقافي في مالي والذي أدى إلى إلقاء القبض على الفاعلين وتقديمهم للمحاكمة، وأمام هذه المعايير المزدوجة سقط شعار اليونسكو القائل أن الاعتداء على ثقافة الشعوب هو اعتداء على الإنسانية جمعاء، وأن تدمير التراث الثقافي يقع في الخط الأمامي في النزاع ولهذا يجب أن تكون حماية التراث الثقافي أيضا في الخط الأمامي.

السيدات والسادة، لا أعرف شكل اليوم التالي في غزة، ربما نستطيع إعمار المباني التي دمرت في غزة ولكننا لا نستطيع إحياء التاريخ الذي احترق وتحول إلى غبار، ولا نستطيع إعادة إحياء البشر المبادين الذين حملوا هذا التراث التاريخي في حياتهم وفي طريقة موتهم، لهذا فإننا نتتطلع في هذا اليوم يوم الوثيقة العربية إلى جهود أكبر لحماية الإنسان وحضارته الإنسانية في فلسطين، والتي لا تنفصل عن تاريخ المنطقة العربية والإسلامية، هناك مهمات جسيمة تقع على عاتق الهيئات والمؤسسات العربية وعلى رأسها جامعة الدول العربية، فإننا نطالب بتشكيل لجنة عربية لتوثيق وتقييم ورصد جرائم الإبادة الثقافية في قطاع غزة وبالتعاون مع كافة المؤسسات الفلسطينية والدولية وتزويد المحكمة الجنائية الدولية بملف شامل عن إبادة الممتلكات الثقافية، ونطالب بمحاكمة قادة وجنرالات الاحتلال الاسرائيلي على هذه الجرائم المخالفة لكل القوانين والشرائع الدولية، من الأهمية التحرك العربي الفاعل باتجاه منظمة اليونسكو لتأخذ دورها الحقيقي مع كافة الهيئات الدولية وبلورة موقف عربي على نطاق الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة والدعوة بشكل عاجل لعقد مؤتمر دولي لفضح هذه الجرائم الصهيونية والتحرك العملي لحماية التراث العربي الفلسطيني وتوفير كل الدعم المالي والفني والتقني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه المقتلة الكبرى التي يتعرض لها شعبنا وتراثنا في غزة.