رام الله- المكتبة الوطنيّة 7-10-2024: أكّدت المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، اليوم الاثنين، أنّ الاحتلال الإسرائيلي ارتكب جرائم حرب وإبادة ثقافيّة في قطاع غزّة طيلة العام الماضي، تتجاوز تأثيراتها مجرّد تدمير الممتلكات والآثار، لتطال الهويّة والانتماء والذّاكرة الجماعيّة للأفراد.
ورصدت المكتبة الوطنيّة آثار الدّمار الّذي حلّ بالإرث الثّقافي خلال عام من الحرب المستمرّة على غزّة، ونوّهت إلى أنّ جميع الأرقام والإحصائيّات تمثّل الحدّ الأدنى، حيث لم تضع حرب الإبادة الجماعيّة أوزارها بعد، وحلّ بقطاع غزّة تدمير واسع النّطاق، وصفته الأمم المتّحدة بأنّه غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثّانية، إذ خلّف عشرات الآلاف من الشّهداء والجرحى، وتعرّضت فيه البنّية التّحتية والمعالم الثقافية لدمار شامل، مما يزيد من صعوبة الوصول إلى المعلومات الدّقيقة والشّاملة، ويصعّب عملية التّوثيق، ويؤثّر سلبًا على القدرة على تقييم الأضرار بشكل كامل.
استراتيجيات الطّمس والأبعاد السّياسية
إنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تنتهج استراتيجيات لطمس الثّقافة وسلب الهويّة، وهي ليست مجرّد أثر جانبي للحرب، بل استراتيجيات ممنهجة تمتدّ جذورها إلى ما قبل احتلال فلسطين عام 1948، تندرج ضمن سياسات عامّة، وتستهدف الرّكائز الفكريّة والثّقافية للمجتمع لإضعافه من الدّاخل وزعزعة الرّوابط الاجتماعية وتقويض هويّته الوطنيّة.
لذا فإنّ استهداف الاحتلال للمراكز الثّقافية والفنّية والتّعليميّة والمعالم الأثرية والدّينية في غزة هو وسيلة لتحقيق أهداف سياسيّة واضحة، حيث أن هذه المراكز ليست مجرّد أماكن للإبداع والفكر، بل هي أيضًا أدوات فعّالة للتّعبير عن الذّاكرة الجماعيّة والصّمود أمام محاولات الاحتلال لإعادة رسم الهويّة، ومحوها يُعطّل من قدرة المجتمع على الحفاظ على هويته الثّقافية ونقلها للأجيال القادمة، ويسمح للمعتدي بفرض الهيمنة والسّيطرة على الشّعب من خلال محو تراثه وتفريغه من معانيه الوطنيّة.
الإبادة الثّقافية كجزء من الحرب: دمار يتجاوز المباني والبشر
إنّ الإبادة الثقافية تُعتبر أحد أخطر الأبعاد للحروب والصّراعات، حيث تعكس استراتيجية شاملة تهدف إلى محو الهويّة الثّقافيّة والتّراث التّاريخي لشعب معيّن، وبينما تركّز معظم الحروب على تدمير البنيّة التّحتيّة وقتل الأفراد، فإن الإبادة الثّقافية تسعى إلى القضاء على الذّاكرة الجماعيّة والرّموز الثّقافية، مما يؤدي إلى نتائج تتجاوز الأضرار الجسدية، ويضعف من قدرة المجتمعات على التّعافي وإعادة البناء بعد انتهاء الحرب ويتجلّى هذا في مجموعة من الممارسات التي قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب المستمرّة على قطاع غزة، بمحاولة محو ممنهج للذّاكرة الفلسطينيّة التّاريخيّة عن طريق تدمير المواقع الأثريّة والمعرفيّة والممتلكات الثّقافية والتّراث المادّي وغير المادّي، واستهداف الآثار الملموسة والوثائق والمخطوطات والكتب وجميع أشكال الإنتاج الثّقافي، إلى جانب قتل الكفاءات الأكاديميّة والعلميّة والفنّية وذوي الخبرات الثّقافية.
تدمير المراكز الثّقافية: محو الهويّة والتّاريخ
يواجه التّراث الثّقافي والتّاريخي في قطاع غزّة الخطر الشّديد نتيجة الحرب والتّدمير والإبادة الثّقافية الممنهجة، الّتي تقود لمساعي الاحتلال الإسرائيلي في محو الهويّة والتّاريخ الفلسطيني وتقليص قدرة الأجيال القادمة على الوصول إلى تاريخهم؛ فقد استهدف الاحتلال البنية التّحتية الثّقافية في قطاع غزّة، من مراكز ثقافيّة ومتاحف ومسارح ومعارض ومعالم تاريخيّة وأثريّة ومكتبات عامّة وخاصّة وجامعيّة ومكتبات المدارس والمساجد والكنائس ودور نشر ومطابع ووزارات.
وطال الدّمار ثروة من الكتب النّادرة والمخطوطات والوثائق التّاريخية والأرشيفات الخاصّة والإدارية، والمواد السّمعية والبصريّة والتّجهيزات ووسائل الحفظ اليدوي والإلكتروني وسجلّات الطّابو والسّجلات المدنيّة والمقتنيات والقطع الأثرية التّاريخية.
استهداف المكتبات والمتاحف ومراكز الأرشيف والآثار: استلاب الذّاكرة الفلسطينية
استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية جميع المتاحف في قطاع غزة، ومن أبرزها المتحف الوطني في "قصر الباشا"، وهو أثر مملوكي، تمّ تحويله إلى متحف في عام 2010، وكان يضمّ عشرات آلاف القطع الأثريّة، ومتحف دير البلح التّابع لبلدية المدينة، ومتحف رفح، ومتحف القرارة، ومتحف الفندق، وغيرها من المتاحف التي دمّرت مقتنياتها أو سرقها جنود الاحتلال وقاموا بتصويرها عقب نقلها إلى المتاحف الإسرائيلية.
كما ودمّرت وحرقت مئات المكتبات الخاصّة والعامّة؛ كمكتبة بلدية خانيونس، والّتي تعرضت لقصف من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية، وكانت تحتوي على آلاف الكتب والخرائط والوثائق التي توثّق تاريخ المدينة، ومكتبة الظّاهر بيبرس في المسجد العمري، والّتي تحتوي على جزء من الأرشيف الفلسطيني ومجموعة من الكتب النّادرة، بالإضافة إلى مكتبة جامعة غزة ومكتبة ديانا تماري صباغ ومكتبة جامعة الإسراء، وتدمير آلاف المكتبات الخاصّة الموجودة في المنازل.
وطال الدّمار الأرشيف المركزي في غزة، الذي يحتوي على مبانٍ ووثائق تاريخيّة قديمة عمرها أكثر من (150 عامًا)، إضافة إلى الأرشيف المركزي للمدينة وخرائط ودراسات هندسية ودوائر التحكم والمراقبة لآبار المياه وشبكات الصّرف الصّحي.
إلى جانب سيطرة قوّات الاحتلال على مخزن آثار غزّة، ونشر مدير هيئة الآثار الإسرائيليّة لصور له ولفريقه من المخزن، والذي يحتوي على آلاف القطع الأثريّة، الّتي تعود إلى حقبات زمنيّة تتراوح ما قبل 3 آلاف سنة قبل الميلاد، إلى القرنين السّابع والثّامن الميلادي وحتّى بداية العهد الإسلامي المبكّر.
كما ودمّرت عشرات المراكز الثّقافية والمسارح، منها: مركز رشاد الشّوا الثّقافي وهو أكبر مركز ثقافي في قطاع غزّة، ويحتوي على وثائق وكتب ومخطّطات تاريخيّة، والمركز الثّقافي الأرثوذوكسي، وجمعية حكاوي للمسرح وجمعية ومسرح الوداد، وغيرها.
استهداف المعالم الأثريّة والدّينيّة
امتدّ الدّمار إلى مئات المباني التّاريخيّة، فقد تمّ تدمير بيت السّقا التّاريخي وهو من الفترة العثمانيّة، وبيت سباط العلمي والذي يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، والمدرسة الكاميلية، وحمام السّمرة الذي كان آخر الحمّامات العثمانيّة في غزّة، كما تمّ قصف المشفى المعمداني وهو بناء تاريخي شيّد في عام 1882، وميناء البلاخية، علاوة على استهداف موقع تلّ العجول الّذي يمثّل تاريخ غزّة في العصرين البرونزي الوسيط والمتأخّر، ودير القدّيس هيلاريون والّذي تعرّض لغارة جوية أدّت إلى تدمير جزء منه، وهو من أقدم أديرة الشّرق الأوسط، وكان قد أدرج على قائمة اليونسكو للتّراث العالمي المعرض للخطر خلال تمّوز 2024.
إلى جانب قصف الاحتلال بالقذائف الموجّهة لأربع كنائس قديمة تُعتبر رموزاً حضاريّة مهمّة في فلسطين، من بينها كنيسة القدّيس برفيريوس، وكنيسة المعمداني ومشفاها، وقصف وتدمير (611) مسجدًا تدميرًا كليًا، فيما دمَّر جزئيًا (214) مسجدًا، من بينها المسجد العمري في غزّة وهو أحد أهمّ وأقدم المساجد في فلسطين التّاريخيّة، ومسجد عثمان قشقار الأثري، كما ودمَّر (8) مقابر بشكل كامل، من بينها تجريف مقبرة بيت حانون ونبش (600) قبر فيها، والمقبرة الرّومانية والّتي تعود إلى نحو 2000 عام، وكانت تضمّ مجموعة توابيت مصنوعة من الرّصاص، ومقبرة دير البلح التي يعود تاريخها إلى العصر البرونزي المتأخر.
استهداف التّعليم
إنّ استهداف إسرائيل للقطاع التعليمي بكافّة عناصره في غزة يُعدّ من أبرز مظاهر الحرب المستمرّة، فقد استشهد نحو (10 آلاف طالب) و(400) معلم ومعلمة، وتأثّرت المدارس والجامعات ورياض الأطفال بشكل كبير جرّاء القصف والتّدمير، ما أدّى إلى تعطيل الدّراسة وتضرّر البنيّة التّحتيّة التّعليميّة منذ بدء الحرب، فتضرّر نحو 90% من المدارس والجامعات (تدمير نحو 125 مدرسة وجامعة بشكل كلّي، و337 بشكل جزئي)، فيما تحوّلت عشرات المدارس إلى أماكن إيواء، وبذلك فقد حرم أكثر من (630) ألف طالب وطالبة التعليم.
الفنّانون والمبدعون والأكاديميّون والصّحفيون في غزة: بين القتل والتّشريد وفقدان المنصّات
إنّ استهداف الأكاديميّين والفنانين والعلماء والصّحفيين في الحرب يمثّل تهديدًا خطيرًا على مستقبل المجتمع الفلسطيني في غزّة، حيث يُعتبر هؤلاء الأشخاص حاملين لمعارف وخبرات فكريّة وثقافيّة تعزّز النموّ والتّقدم، وإفقادهم لمنصّاتهم وأدواتهم الفكريّة والإعلاميّة والفنّية بفعل الإبادة والتّهجير قد يؤدي إلى إضعاف البنيّة الثّقافية والعلميّة.
ومنذ بدء حرب الإبادة؛ قتلت آلة الحرب الإسرائيلية أكثر من (130) من العلماء والأكاديميّين وأساتذة الجامعات والباحثين، من بينهم سفيان تايه، رئيس الجامعة الإسلامية وعالم الفيزياء الفلسطيني والباحث بمجالي الفيزياء والرياضيات التّطبيقية. علاوة على استشهاد (127) صحفيًا، واستشهاد عشرات الكتّاب والشّعراء والفنّانين، من بينهم الشّاعر والكاتب سليم النّفّار، والفنّان فتحي غبن أحد مؤسّسي جمعية التّشكيليين في قطاع غزة.
تدمير الحرف اليدويّة والأعمال الفنّية التّراثية
إلى جانب فقدان الأعمال الفنيّة التي كان يحتفظ بها أصحابها في منازلهم الّتي دمّرت، فقد تضرّرت العديد من ورشات ومتاجر الحرف اليدويّة والشّعبية التي تشتهر بها غزة، كالتّطريز وصناعة الخزف وصناعة الفخّار والخيزران، وتعدّ هذه الحرف جزءاً لا يتجزّأ من التّراث الثّقافي والهويّة الوطنيّة، بالإضافة إلى كونها مصدرًا أساسيًا للدخل لكثير من سكّان غزّة.
سبل إنقاذ ما تبقّى
وفي ظلّ الحرب المستمرّة منذ عام؛ تعيش الحالة الثّقافية في قطاع غزة ضمن تحديات لإعادة بناء المشهد الثقافي من جديد واستئناف الأنشطة الثقافية، ومنها صعوبة استرجاع المفقود أو المسروق، وفقدان الكفاءات البشريّة التي كانت تشكّل العمود الفقري لهذه المؤسسات، بفعل الاستشهاد أو التهجير أو النزوح، وانعدام الأمن وتعطّل البنية التّحتية الذي يعيق أي جهد في إعادة البناء، بالإضافة إلى تحديات التنسيق مع الجهات الدولية والمحلية المانحة، واعتماد المؤسّسات الدّولية على المتابعة عن بُعد للصور الساتلية لتقييم الأضرار نظراً إلى استحالة إجراء تقييم ميداني في ظل الظروف الراهنة.
وتطالب المكتبة الوطنيّة المجتمع الدّولي بضرورة توفير الحماية للتّراث الثّقافي الفلسطيني الموجود في قطاع غزّة، انطلاقًا من مبدأ ملكيّة الممتلكات والأعيان الثّقافية للإنسانيّة جمعاء، وأنّ الاعتداء عليها يشكّل اعتداءً على كلّ شعوب العالم، داعية إلى الالتزام باتفاقية لاهاي لعام 1954، التي تمنع تدمير وإلحاق الضّرر بالتّراث الثّقافي في النّزاعات المسلّحة. كما وتطالب بتشكيل لجنة دوليّة من الأمم المتّحدة وخاصّة اليونسكو لتقييم الأضرار الثّقافيّة والعمل على إعادة ترميمها، وبتشكيل لجنة لتوثيق الأضرار من المؤسّسات الفلسطينيّة، تمهيدًا لرفع ملفّ الإبادة الثّقافية في غزّة إلى المحكمة الجنائية الدّولية، لملاحقة مجرمي الحرب، والمطالبة بتعويضات.