د. ضرغام غانم فارس
ملخص
تتقارب وتتباعد النصوص الدينية في مختلف الديانات من حيث مفهوم الإله والطقوس والسلوكيات والأخلاقيات، وهذا التمايز ما بين الديانات هو مبرر وجودها، فلو كانت الديانات جميعها متطابقة بمفاهيمها وتعاليمها لاندمجت وانصهرت كلها في ديانة واحدة، ولما وجد رجال الدين في كل ديانة المادة المناسبة التي ترتكز على الاختلاف لترسيخ ايمان أتباع تلك الديانة والعمل على استقطاب أتباع الديانات الأخرى من خلال العمل على إقناعهم بأن هذا المعتقد صحيح وذاك خطأ وأن الحق هنا والباطل هناك... ولهذا نجد أن النصوص الدينية للآخر ليست مستهدفة بالتعديل أو الإلغاء من طرف رجال الدين، وليست سببا حقيقيا للحرب أو السلم لدى القادة السياسيين، وإنما هي مادة وأداة استخدمها ووظفها رجال الدين والسياسيين كل بطريقته وحسب حاجاته وأهدافه.
لا شك أن ظهور الحركة الصهيونية وتوظيفها التوراة لتشريع احتلال فلسطين، جعل التوراة بكل ما تتضمنه رديفًا للإحتلال لدى غالبية أبناء الشعب الفلسطيني، وجعل الصراع الديني ضمن مفهومهم للصراع مع الاحتلال.
عندما اخرجت الحركة الصهيونية التوراة من سياقها الديني ووظفتها كأداة لتحقيق سياستها العنصرية، أصبحت التوراة فوبيا تثير الخوف الممزوج بالغضب والاستياء والتحفز للنفي والرد لدى الغالبية الفلسطينية، ولم يقتصر هذا على عامة الناس من غير المختصين بالتاريخ والآثار وانما طال أيضا الكثير من الباحثين المؤرخين والآثاريين وأربكهم.
ومن خلال مقارنة نتائج تحليل استبانة هذه الدراسة بنتائج دراسة أُجريت قبل خمس سنوات، لمست تقدمًا طفيفًا لدى المجتمع الفلسطيني في وضع التوراة في سياقها الديني وعدم الإنجرار إلى الصراع الديني، لكن بقيت غالبية المجتمع الفلسطيني تتخوف من التوراة وتظهر العداء لها، بسبب توظيف النصوص التوراتية من طرف الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال، وهذا يستوجب مواصلة الجهود التوعوية. أما غالبية المرشدين السياحيين فليس لديهم ذلك التخوف أو العداء للتوراة، وهذا بسبب طبيعة مناهج الإرشاد السياحي التي تقدم التوراة كمادة إرشادية شيِّقة ومحبذه لدى مجموعات السياحة الدينية، في حين نجد أن غالبية المرشدين لا يضعون التوراة في سياقها الديني عند تقديمها ولا يفرقون ما بينها وبين التاريخ، وهذا يستوجب مراجعة وتطوير مناهج الإرشاد السياحي.
للخروج من هذا المأزق بالنسبة للباحثين المؤرخين والآثاريين، يجب وضع التوراة في سياقها التاريخي الصحيح من حيث تأريخ كتابتها ودوافع صياغتها، وأن يتصالحوا مع أنفسهم ومع تاريخهم، وذلك من خلال الفهم العلمي الصحيح لتاريخ فلسطين، وهذا يتحقق فقط من خلال البحث العلمي وعدم الانجرار وراء العواطف الدينية وعدم السماح للإحتلال أن يجرنا الى مربع الصراع الديني. فالتوراة ليست دخيلة علينا وانما كتبها أجدادنا لأسباب تتعلق بظروفهم وطموحاتهم في ذلك الزمان. أما بالنسبة لعامة الناس، فمن أراد أن يعتبر التوراة كتابًا مقدسًا فهذا حقة بشرط أن يبقيها في سياقها الديني ولا يسمح بتوظيفها خارج هذا السياق، ومن أراد أن يعتبرها مزورة فهذا أيضا حقه ولكن عليه احترام من يؤمنون بها، وليس من حقه المساس بحرية المعتقد للآخرين، وأما اليهود الذين جلبتهم الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين فيربطهم بالتوراة المعتقد الديني فقط ولا يربطهم بها عرق او لغة او تاريخ.
الكلمات المفتاحية: فوبيا التوراة، تاريخ فلسطين، آثار فلسطين، المجتمع والتوراة، الارشاد السياحي.
Abstract
In most religions, the scriptures vary in regards to the perception of God, rituals, behaviors and morals. Essentially, this differentiation is the justification of their existence, for if they were identical in their concepts and teachings, they would have blended into one. Clergymen would also fall short of finding the appropriate material that highlights religious differences which ultimately reinforces their followers’ faith and strives to rally the followers of other faiths, through delivering persuasive arguments that the truth lies here, not elsewhere. Therefore, clergymen do not attempt to alter others’ religious scriptures or cancel them, nor are scriptures an underlying reason for politicians to wage war or peace, they are solely a tool employed by clergymen and politicians, each in their own approach to serve their own purpose.
The emergence of Zionism and its employment of the Old Testament as an excuse to occupy Palestine has made the Old Testament a synonym for occupation. Furthermore, it has encapsulated the religious conflict within the fight against the occupation for most Palestinians.
Once Zionism removed the Bible from its original context and used it as a tool to attain its racist objectives, it became a phobia for most Palestinians, evoking emotions of fear, mixed with anger, resentment, and a passion for denial. This is not restricted to the general public, but also included many historians and archeologists.
Upon comparing the analysis of this study to another conducted five years ago, we notice a slight improvement in the Palestine community’s perception of the Old Testament, by putting it in its religious context and not falling for the religious conflict theory. Yet, the majority of Palestinians continue to exhibit fear of, and hostility against the Torah because of the Zionists and occupying state’s employment of the scriptures, which deems continuing the awareness creation efforts a necessity.
On the other hand, the majority of tour guides do not display the same fear or hostility towards the Old Testament which is a result of the nature of their curricula, depicting the Bible as a guiding, exciting topic, favored by the religious pilgrims. Furthermore, most of the tour guides do not present the Bible in its religious context and classify it as history which requires revising and reforming the tour guide curricula.
For historians and archeologists to be able to escape this dilemma, the Bible has to be put into its right context in terms of when and why it was written. Historians and archeologists have to come to peace with themselves and with history through comprehending the accurate history of Palestine. This could be only achieved through academic research and rational understanding, and not allowing the occupation to pull us into the confinement of religious conflict. The Bible is not foreign to us, on the contrary, it was written by our ancestors for reasons relevant to their circumstances and ambitions at that time. As for the general public, those who regard the Old Testament as a holy book should keep it in its religious context and not allow others to utilize it in any other way. Those who believe that it is forged should remain respectful to its believers and to their freedom of belief. Jews who were brought by Zionism to occupy Palestine do not have any ethnic, linguistic or historical connection to it, only a religious one.
Keywords: Torah phobia, history of Palestine, antiquities of Palestine, society and the Torah, tourist guidance.
مفهوم التوراة:
التوراة (The Bible) أو العهد القديم (The Old Testament)، هي تسميات تحمل نفس المفهوم المتعارف عليه لدى الباحثين بأنه الكتاب المقدس العبري (The Hebrew Bible). (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 5) ، وهو ال "تاناخ" (Tanakh) بالنسبة لليهود (عايش، 2007، صفحة 22)، ويقسم التناخ إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يضم الأسفار الخمسة الاولى الجزء الأول ويعرف باسم التوراة (The Torah) والتي تعني الشريعة أو القانون الذي ينظم طريقة حياة اليهود بناء على عهدهم مع الرب (Douglas & Tenney, 2011) ويضم الأسفار الخمسة الاول والمعروفة باسم (بِنتاتوك) (The Pentateuch) وهي كلمة يونانية تعني ذو الأسفار الخمسة (السقا، 1995، صفحة 28،29). الجزء الثاني هو الأنبياء (The Prophets) ويضم 21 سفرًا، أما الجزء الثالث فهو الكتابات (The Writings) ويضم 13 سفرًا (Finkelstein & Silberman, 2001, pp. 6,7).
يؤمن السامريون بالأسفار الخمسة الآولى فقط (Wasef, 2012, p. 271)، أما المسيحيين فيؤمنون بجميع أسفار التناخ، لأن العهد الجديد بالنسبة لهم ما هو إلا استكمال للعهد القديم (Streeter, 1930, p. 4)، فيما يؤمن المسلمون بجميع الرسل (القرآن: البقرة: 285) ويؤمنون بأن التوراة كتاب سماوي (القرآن: المائدة: 44)، لكن يعتبرون التوراة التي بيد اليهود محرَّفة (القرآن: البقرة: 75) كتبها اليهود وادعوا انها من عند الله (القرآن: البقرة: 79).
في هذه الدراسة نستخدم كلمة التوراة بالمفهوم الإسلامي لهذه التسمية، والتي تعني الكتاب المقدس الخاص باليهود، بمعنى أنني نقصد "التناخ" أي جميع أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس.
التداخل ما بين الثقافة الإسلامية والروايات التوراتية:
التخوف والعداء لدى غالبية أبناء الشعب الفلسطيني تجاه التوراة هو تخوف مفهوم ومبرًّر للأسباب سوف نبيِّنها في هذه الدراسة والتي تتعلق باحتلال فلسطين بمسوغات توراتية، لكن اذا نظرنا إلى الفهم الإسلامي لتاريخ فلسطين المقتبس من النصوص القرآنية ومن كتب التفسير، نجد أن المسلم يكرر الروايات التوراتية التي يظهر لها العداء، بل ويصف الشخصيات الرئيسية الواردة في الروايات التوراتية بأنهم أنبياء ويضفي عليهم تبجيلًا وتنزيهًا لم يحظوا به في التوراة، ففي القرآن نجد أن نوح (القرآن: الأعراف: 59) ولوطًا (القرآن: الصافات: 133) وإبراهيم إسماعيل واسحق ويعقوب وموسى (القرآن: البقرة: 136) وداوود وسليمان (القرآن: النساء: 163) كلهم أنبياء، ونجد أيضًا قصة نوح والطوفان (القرآن: الأعراف: 59-64، 71-73) بما تتضمنه حول صنعه السفينة وأنه أخذ معه من الكائنات الحية من كل زوجين اثنين (القرآن: هود: 36-48)، كما نجد أن اسم إبراهيم تكرر في القرآن سبعين مرة، وهو الذي جعله الله خليلًا له (القرآن، الإسراء: 73) وإمامًا للناس (القرآن: البقرة: 124)، وقصة يوسف (القرآن: يوسف) ثم قصة موسى والخروج من مصر (القرآن: طه: 9-97) وغرق فرعون وقومه (القرآن: الزخرف: 46-55) والمُلك العظيم لداوود وسليمان (القرآن، الأنبياء: 78-82).
وأكثر من ذلك نجد أن الروايات التوراتية حاضرة في تفسير بعض آيات القرآن، فمثلًا تذكر كتب التفسير بأن أصل إبراهيم من العراق ثم هاجر إلى فلسطين (المحلَي و السيوطي، 2001، صفحة 427) علمًا بأن الآية القرآنية لم تذكر الموطن الأصلي لإبراهيم (القرآن: الأنبياء: 71) وما هذا التفسير إلى اقتباس من التوراة (التكوين: 11: 31)، ثم نجد من يفسر سبب نزول الآية " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" (القرآن: البقرة:45) بأن إبراهيم قال للملك أن سارة هي اخته وليست زوجته فأخذها الملك لكنها استعانت بالصبر والصلاة فلم يمسها (ابن كثير، 1997)، والحقيقة أن هذا اقتباس من نصِّ توراتي يتحدث عن إبراهيم وزوجته سارة وقصتهم مع فرعون مصر (التكوين: 12: 10-16). كما نجد آيات قرآنية تم تفسيرها من التوراة، مثلا: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا" (القرآن: الكهف:60) لم يُذكر اسم فتى موسى في الآية القرآنية لكن في التفسير نجد أن اسم الفتى هو يوشع بن نون (المحلَي و السيوطي، 2001، صفحة 389) وهذا تفسير مأخوذ من التوراة التي تذكر أن الفتى يشوع بن نون كان خادم موسى (العدد: 11: 28).
ورغم هذا التداخل ما بين الثقافة الإسلامية والروايات التوراتية لا بد من الإشارة إلى أن هناك اختلاف في السياق وفي التفاصيل، فما ورد في القرآن الكريم حول قصص الماضي هو سرد مقتضب في سياق الموعظة فقط، ولهذا نجد التركيز على التعظيم والتنزيه للصالحين والتحقير والعقاب للطالحين، بينما نجد في التوراة تفاصيل كثيرة تُقدَّم في سياق سردي وكأنها كتاب تاريخ يحمل في طياته الكثير من التفاصيل التي لا تخلو من الشرائع والموعظة. ومن ناحية أخرى فإن التوافق الإسلامي التوراتي على الإطار العام لأحداث الماضي لا يعني أبدا اعتراف كل ديانة بصحَّة الأخرى، وإنما يبقى هناك إختلاف بتفاصيل الروايات والمعتقدات يمثل التمايز المطلوب دينيًا، وهذا الاختلاف لا يشكل سببًا للعداء والحرب إذا كان بمعزل التوظيف السياسي.
كيف ينظر المجتمع الفلسطيني للتوراة؟
نعيش وسط مجتمعنا الفلسطيني، ولكل منا علاقاته مع محيطه ومعارفه بالإضافة إلى نقاشاتنا ومشاركاتنا في ملتقيات ومؤتمرات ومحاضرات عديدة حول هذا الموضوع، وهذا أوجد لدينا تصور حول نظرة المجتمع الفلسطيني للتوراة، ورغم ذلك ارتأيت إجراء استقصاء مُيسَّر لعينة عشوائية من المجتمع المحلي شملت 200 مفردة من كامل فلسطين التاريخية.
تضمنت الإستبانة أحد عشر سؤالًا، لكن لا تتسع هذه الورقة البحثية لتحليل وتفسير جميع أسئلة الاستبانة خاصة وأنني قمت أيضًا باستقصاء مُيسَّر لعينة عشوائية شملت ستين مفردة من المرشدين السياحيين تضمنت ثمانية أسئلة، ولهذا سوف نكتفي بتحليل وتفسير ثلاثة أسئلة محورية من كل استبانة:
استبانة المجتمع المحلي:
1- للتعرف على تقييم المجتمع لصحة الروايات التوراتية طرحت السؤال التالي على مفردات المجتمع التي شملتها الإستبانة: هل الروايات التوراتية التي تتحدث عن المملكة القديمة لبني إسرائيل في فلسطين، روايات صحيحة أم خاطئة؟. فتبين أن 7% من عينة الدراسة يعتقدون أنها روايات صحيحة، بينما 67% يعتقدون أنها روايات خاطئة، في حين 22.5% لا يعرفون مدى صحتها، و 3.5% لا يهمهم أن كانت صحيحة أم لا.
رغم تداخل الروايات الدينية بين الديانات السماوية نلاحظ أن 67% من مفردات عينة المجتمع يعتقدون أن الروايات التوراتية التي تتحدث عن المملكة القديمة لبني إسرائيل روايات خاطئة، مقابل 7% فقط يؤمنون بصحتها. ومما لا شك فيه أن الجزم بعدم صحة تلك الروايات يحتاج إلى دراسة تاريخ وآثار فلسطين خلال العصر الحديدي، وهذا لا يتوفر لدى غالبية الشعب الفلسطين ولا لدى غالبية من اعتبروها غير صحيحة من مفردات العينة. ولهذا أعتقد أن رأي غالبية عينة المجتمع بأن الروايات التوراتية التي تتحدث عن المملكة القديمة لبني إسرائيل روايات خاطئة لم يكن من منطلق علمي، وإنما هو رد فعل طبيعي لتوظيف تلك الروايات من طرف الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال في إدعاء حق ملكيتهم لفلسطين.
2- للتعرف على مدى حضور الصراع الديني لدى المجتمع الفلسطيني في مفهومه للصراع مع الاحتلال، طرحت السؤال التالي: كيف تصنف صراع الفلسطينيين مع الاحتلال؟
تبيَّن أن 61.5% يصنفون الصراع مع الاحتلال بأنه صراع ديني وسياسي، و 30.5% يُصنِّفوه صراعاً سياسياً، و 7% صراعاً دينياً، فيما أجاب 1% بلا أعرف.
نلاحظ أن 68.5% من عينة المجتمع يعتقدون أن جزءً من الصراع مع الاحتلال هو ديني أو أن جميعه صراع ديني، وهذا أيضا نفسره بأنه رد فعل من طرف المجتمع الفلسطيني على استخدام سلطات الاحتلال للمعتقدات الدينية اليهودية في إضفاء الشرعية على إحتلالهم لفلسطين.
3- لإستقصاء رأي المجتمع الفلسطيني بخصوص تأثير ما يقوله المرشد السياحي الفلسطيني على الموقف السياسي للسائح الاجنبي من القضية الفلسطينية طرحت السؤال التالي: هل تعتقد أن ما يقوله المرشد السياحي للسائح الأجنبي، يمكن أن يؤثر ايجابا أو سلبا على موقف السائح من القضية الفلسطينية؟.
يعتقد 93% من عينة الدراسة من المجتمع المحلي أن ما يقوله المرشد السياحي يؤثر على الموقف السياسي للسائح من القضية الفلسطينية، بينما يعتقد 4% أنه غير مؤثر، في حين لا يعرف 2% أن كان ما يقوله المرشد مؤثر، و 1% لا يهمهم.
أعتقد أن رأي 93% من عينة الدراسة من المجتمع المحلي بأن ما يقوله المرشد السياحي يؤثر على الموقف السياسي للسائح من القضية الفلسطينية يعبر عن إلمام بأهمية مهنة الإرشاد السياحي وآمال يبنيها المجتمع الفلسطيني على دور المرشد السياحي في خدمة القضية الفلسطينية من خلال التأثير على المجموعات السياحية التي يرافقها وبالتالي على الرأي العام العالمي. وهو رأي في محله إذا تتصف المرشد السياحي بالمهنية وتحدث بلغة حيادية بعيدة عن الإملاء والتلقين، فهو سفير بلده لدى المجموعات السياحية التي يرافقها ويعكس الوجه الحضاري والثقافي لأبناء شعبه وينقل همومهم بأمانة.
إستبانة المرشدين السياحيين
1- للتعرف على تقييم المرشد السياحي للمادة الدراسية التي تلقاها أثناء دراسته للإرشاد، طرحت السؤوال التالي: كيف تصنف المادة النظرية التي تُدرَّس لإعداد المرشدين السياحيين؟
تبيَّن لي أن 77% من مفردات العينة يعتقدون أنها مادة متوازنة في مضمونها الآثاري والتاريخي والديني. بينما يعتقد 17% المناهج بأن معظمها معلومات أثرية وتاريخية، و 6% بأن معظمها معلومات وروايات دينية.
نلاحظ أن غالبية المرشدين السياحيين (77%) يعتقدون أن المادة التي درسوها في كليات الإرشاد مادة متوازنة في مضمونها الآثاري والتاريخي والديني، لكن دقة هذه الإجابة مرتبطة بكيفية تصنيفهم للروايات التوراتية ومدى تمييزهم ما بينها وبين المادة التاريخية. وهذا ما قمت باسقصائه من الخلال السؤال الذي يليه.
2- لمعرفة مدى قدرة المرشد السياحي على التمييز ما بين الروايات التوراتية والتاريخ، طرحت السؤال التالي: هل تعتقد أن تقديم روايات العهد القديم من الكتاب المقدس للسائح بكل شفافية يعتبر تبني للرواية الإسرائيلية أم أنه سرداً حيادياً للتاريخ وبعيدا عن السياسة؟
تبين أن 82% من العيِّنة يعتقدون بأن تقديم روايات العهد القديم من الكتاب المقدس (الروايات التوراتية) للسائح بكل شفافية، هو سرداً حياديا للتاريخ وبعيداً عن السياسة. بينما يعتقد 10% أنه تبني للرواية الاسرائيلية، في حين كانت اجابة 8% بلا أعرف.
لا شك أن اعتقاد 82% من العيِّنة أن تقديم روايات العهد القديم من الكتاب المقدس (الروايات التوراتية) للسائح بكل شفافية هو سرداً حياديا للتاريخ وبعيداً عن السياسة، يدل على أن هذه النسبة العالية من العينة لا يميزون ما بين الروايات والمعتقدات الدينية وبين الحقائق التاريخية التي تتناقض مع معظم تلك الروايات وتنقضها، وهذا الأمر يستوجب التدارك من خلال تطوير مناهج الإرشاد السياحي.
3- لمعرفة وجهة نظر المرشد السياحي الفلسطيني بخصوص أهمية الروايات التوراتية كمادة إرشادية مناسبة وشيِّقة بالناسبة للسائح الأجنبي، طرحت السؤال التالي: هل تعتقد أن روايات العهد القديم من الكتاب المقدس مادة مناسبة وشيِّقة بالنسبة للسائح الأجنبي؟.
تبيَّن ان 87% من العيِّنة يعتقدون أنها روايات مناسبة وشيقة، و 10% كانت إجابتهم بالنفي، فيما أجاب 3% بلا أعرف.
اعتقاد 87% من عيِّنة المرشدين السياحيين أن الروايات التوراتية روايات مناسبة وشيقة، هو مؤشر على عدم وجود رهبة أو عداء للتوراة لدى غالبية المرشدين، وهو مؤشر إيجابي ومطلوب بشرط معرفتهم بأن تلك الروايات ليست تاريخ، وأن يقدموها للسائح في سياقها الديني وليس كحقائق تاريخية، بمعنى أن يقولوا عند تقديمها: بحسب التوراه أو بحسب سفر كذا أو بحسب التقاليد الدينية، وعند تقديم المادة التاريخية التي تتناقض مع المعتقدات الدينية أن يقولوا: بحسب علم التاريخ والآثار أو بحسب ما يقوله علماء التاريخ والآثار، ويمكنه أن يذكر أسماء علماء ومراجع. المهم أن يتحدث كمحايد ناقل للمعلومة وليس كمنظر لتوجه محدد أو كطرف صراع.
مقارنة نتائج الإستقصاء بما قبل خمس سنوات
قمت بتوزيع استبانات عام 2017 في إطار إعداد رسالة دكتوراه في الإرشاد السياحي نوقشت عام 2019، وقد تضمنت تلك الدراسة أربع عينات، منها عينة للمجتمع الفلسطيني وشملت 400 مفردة وعينة للمرشدين السياحيين وشملت 50 مفردة (فارس، 2019، صفحة 36). وللإستفادة من هذه الدراسة السابقة قمت بتكرار معظم أسئلة استبانات الدراسة السابقة المتعلقة بعيِّنتي المجتمع والمرشدين وذلك للمقارنة ورصد التغييرات التي ربما طرأت على النتائج خلال الخمس سنوات الفاصلة ما بين الدراستين. وفيما يلي مقارنة للنِّسَب في نتائج تحليل الأسئلة الستة الخاصة بعيِّنَتَي المجتمع والمرشدين مع النِّسب لنتائج نفس الأسئلة في الدراسة السابقة:
مقارنة نتائج إستقصاء المجتمع بما قبل خمس سنوات
ملاحظات الإجابات الحالية الإجابات السابقة الخيارات السؤال الرقم
تغيُّر بنسبة 7% تقريبًا من إجمالي العينة لصالح اعتبار الروايات التوراتية غير صحيحة 7% 14.25% روايات صحيحة هل الروايات التوراتية التي تتحدث عن المملكة القديمة لبني إسرائيل في فلسطين، روايات صحيحة أم خاطئة؟ 1
67% 60.75% روايات خاطئة
22.5% 20% لا أعرف
3.5% 5% لا يهمني
تغيُّر بنسبة 21% تقريبًا من إجمالي العينة لصالح الإعتقاد بقدرة تأثير المرشد السياحي الفلسطيني على السائح الأجنبي 93% 71.75% نعم هل تعتقد أن ما يقوله المرشد السياحي للسائح الأجنبي، يمكن أن يؤثر ايجابا أو سلبا على موقف السائح من القضية الفلسطينية؟ 2
4% 15% لا
2% 8.25 لا أعرف
1% 5% لا يهمني
تغيُّر بنسبة 5% تقريبًا من إجمالي العينة لصالح تصنيف الصراع مع الاحتلال كصراع سياسي وليس ديني 7% 12.25% صراع ديني كيف تصنف صراع الفلسطينيين مع الاحتلال؟ 3
30.5% 26.75% صراع سياسي
61.5% 56.75% صراع ديني وسياسي
1% 4.25% لا أعرف
مقارنة نتائج إستقصاء المرشدين بما قبل خمس سنوات
الرقم السؤال الخيارات الإجابات السابقة الإجابات الحالية ملاحظات
1 كيف تصنف المادة النظرية التي تُدرَّس لإعداد المرشدين السياحيين معظمها معلومات أثرية وتاريخية 6% 17% تراجع بنسبة 15% من إجمالي العينة عن الإعتقاد بأنها مادة متوازنة، منها 11% لصالح أن معظمها معلومات أثرية وتاريخية
معظمها معلومات وروايات دينية 2% 6%
مادة متوازنة أثرية وتاريخية ودينية 92% 77%
2 هل تعتقد أن تقديم روايات العهد القديم من الكتاب المقدس للسائح بكل شفافية يعتبر تبني للرواية الإسرائيلية أم أنه سرداً حيادياً للتاريخ وبعيدا عن السياسة؟ تبني للرواية الإسرائيلية 8% 10% تغيُّر بنسبة 2% من إجمالي العينة لصالح الإعتقاد بأن سرد الروايات التوراتية هو تبني للرواية الإسرائيلية وليس سردًا حياديًا للتاريخ
سردا حياديا للتاريخ وبعيدا عن السياسة 84% 82%
لا أعرف 8% 8%
هل تعتقد أن روايات العهد القديم من الكتاب المقدس مادة مناسبة وشيِّقة بالنسبة للسائح الأجنبي؟ نعم 84% 87% لا يوجد تغيير ذا دلالة إحصائية، لأن 7% من إجمالي العينة والتي كانت إجابتهم "لا أعرف" قدموا إجابات توزعت بنسب متقاربة على الخيلرين الآخرين
لا 6% 10%
لا أعرف 10% 3%
من خلال مقارنة نتائج تحليل استبانة المجتمع الفلسطيني هذه الدراسة بنتائج دراسة أجريت قبل خمس سنوات، نلاحظ تقدمًا طفيفًا بنسبة 7% تقريبًا من إجمالي عينة الدراسة إذ أصبح لديهم فهمًا أفضل للتوراه من حيث وضعها في سياقها الديني وليس التاريخي، و نلاحظ أيضَا تقدمًا طفيفًا بنسبة 5% تقريبًا لصالح عدم الإنجرار إلى الصراع الديني، لكن تبقى غالبية المجتمع الفلسطيني تتخوف من التوراة وتظهر العداء لها، وذلك في اعتقادي بسبب توظيف النصوص التوراتية من طرف الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال، وهذا يستوجب مواصلة الجهود التوعوية. أما بالنسبة لغالبية المرشدين السياحيين فليس لديهم ذلك التخوف أو العداء للتوراة رغم وجود تغيُّر طفيف بنسبة 2% من إجمالي العينة لصالح الإعتقاد بأن سرد الروايات التوراتية هو تبني للرواية الإسرائيلية وليس سردًا حياديًا للتاريخ، وفي اعتقادي أن هذا بسبب طبيعة مناهج الإرشاد السياحي التي درسوها والتي تقدم التوراة كمادة إرشادية شيِّقة ومحبذه لدى المجموعات السياحة وخاصة مجموعات السياحة الدينية، في حين نجد أن غالبية المرشدين لا يضعون التوراة في سياقها الديني عند تقديمها ولا يفرقون ما بينها وبين التاريخ، وهذا يستوجب التدخل في مناهج الإرشاد السياحي.
لماذا أصبحت التوراة مرادفة للإحتلال لدى غالبية الشعب الفلسطين؟
يعتبر ظهور الحركة الصهيونية وتوظيفها للتوراة في تشريع احتلال فلسطين، نقطة تحول في نظرة الشعب الفلسطيني -بصفة عامة- للتوراة بنصوصها ورواياتها. فاستخدام الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال وتكرارهم لأسماء وروايات توراتية وابتكارهم لمصطلحات وتطويرهم لمفاهيم ذات أصل توراتي وتوظيفها جميعًا لتسويغ الأهداف العنصرية والجرائم بحق الشعب الفلسطيني، جعل التوراة بكل ما تتضمنه رديفًا للإحتلال، وجعل الصراع الديني ضمن مفهوم الصراع مع الاحتلال لدى غالبية أبناء الشعب الفلسطيني. فالحركة الصهيونية اشتقت اسمها من جبل صهيون المذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس، وهو اقتباس يحمل مفهوم الارتباط الديني والتاريخي بفلسطبن والحنين للعودة إليها (المزامير: 137: 1-3)، كما ان تكبر الصهيانية وإستعلائهم على كل شعوب الأرض يغلفوه بالإرادة والاختيار الرباني لهم على انهم الشعب المختار (اللاويين: 20: 26)، ويضاف الى ذلك اتخاذ الصهاينة لبعض النصوص التوراتية كمسوغ لقتل الشعب الفلسطيني وتشريده وعدم الصلح معه على اعتبار ان هذه الوحشية والعنصرية تنفيذ لتعليمات ربانية (الخروج: 23: 23-33)، وحين ينظر المواطن الفلسطيني إلى علم دولة الاحتلال الصهيوني يرى خطان أزرقان يجسدان أطماع الصهيونية بالسيطرة على الأراضي الواقعة ما بين النيل والفرات، وهو حلم مقتبس أيضًا من التوراة (التكوين: 15: 18)، كما يرى المواطن الفلسطيني اقتباسات من التوراة في شعارات على النقود وفي أسماء معظم المستوطنات وفي خطابات قادة الاحتلال .... كل هذا جعل التوراة بالنسبة الى غالبية أبناء الشعب الفلسطيني كلمة بغيضة رديفة للمزاعم الصهيونية وجزء لا يتجزأ من العداء للاحتلال، وبالتالي يخشون استخدام مفرداتها في حديثهم أو كتاباتهم حتى لا يُفسر ذلك بأنه إقرار منهم بصحتها وبشرعية توظيفها من طرف الاحتلال.
فوبيا التوراة في البحث العلمي:
عندما اخرجت الحركة الصهيونية التوراة من سياقها الديني ووظفتها كأداة لتحقيق سياستها العنصرية، أصبحت التوراة فوبيا تثير الخوف الممزوج بالغضب والاستياء والتحفز للنفي والرد لدى الغالبية الفلسطينية، ولم يقتصر هذا على عامة الناس من غير المختصين بالتاريخ والآثار وانما طال أيضا الكثير من الباحثين في تاريخ وآثار فلسطين وأربكهم، ونجد الكثير من الإنعكاسات لحالة التوهان هذه لدى الكثير من الباحثين، وفيما يلي بعض الأمثلة: نجد من ينفي أن تكون فلسطين مسرح الأحداث التوراتية وينقل جغرافيا التوراة إلى شبه الجزيرة العربية مثل الريبعي (الربيعي، 2010) والصليبي (الصليبي، 1997)، ونجد من يرفض هذه الفرضية وينشر ردًا عليها (السواح، 1997). ونجد من يعتبر التوراة والديانة اليهودية تخص شعب دخيل جاء إلى فلسطين وكان له مملكة يهودية موحدة (المسيري، 1982، صفحة 14)، ونجد من يتناول التاريخ القديم لفلسطين بتحيُّز وبحكم مسبق بالعداء (دروزة، 1962، الصفحات 5-12) وذلك في اعتقادي بسبب إسقاط الصراع الحالي مع الاحتلال الصهيوني على دراسة الماضي. وحين يكون الباحث كاهن سامري مثلا نجد أنه يعتبر التوراة كتابا مقدسا وكتاب تاريخ (Wasef, 2012) بسبب معتقده الديني. ونجد من يستند إلى التوراة لإثبات عروبة أرض فلسطين (الشريف، 2017)، أو ربط بعض معلومات توراتية بتاريخ محدد دون أي سند علمي للحدث نفسه أو لتأريخه، مثل القول بأن إبراهيم جاء إلى فلسطين عام 1805 ق.م. (الكيالي، 1990، صفحة 13) أو عام 1850 ق.م. (المسيري، 1999، صفحة 131)، أو عام 1900 ق.م. (الفلسطينية، 2001، صفحة 93) أو تأريخ الخروج بالعام 1250 ق.م. (العارف، 1951، صفحة 14) وأيضًا نجد السرد التوراتي يُلقي بظله على بعض المناهج المدرسية، مثل القول بأن الكنعانين سموا بهذا الاسم ربما نسبة إلى جدهم كنعان (عريدي، ابو ليلى ، و آخرون، 2017). ومن خلال النقاش المستمر مع الباحثين حول نقض الرواية الصهيونية، نجد أن هناك من يخشى استخدام كلمات وردت في التوراة مثل اسرائيل والشمعدان، أو يتجنب الحديث عن الثورة المكابية أو الثورات ضد الرومان... ونجد من يرفض الحديث عن التوراة ويطالب بإعادة كتابة تاريخ فلسطين وكأنها غير موجودة، ونجد من ينفي صحتها ويستند لها كمصدر علمي بنفس الوقت.
رغم هذا الإرباك والتوهان لدى العامة وبعض الباحثين، وبعد أن بينَّت مفهوم التوراة بالنسبة لليهود والسامريين والمسيحيين والمسلمين، وبينت مدى التداخل ما بين الثقافة الإسلامية والروايات التوراتية، وأن سبب العداء للتوراة هو توظيفها من طرف الحركة الصهيونية لتشريع احتلال فلسطين دينيًا وتاريخيًا، نجد أن بإمكاننا الإجابة على السؤال التالي: كيف نتخلص من فوبيا التوراة؟.
كيف نتخلص من فوبيا التوراة؟
للتخلص من فوبيا التوراة يجب كسر الحاجز النفسي الذي يفصل ما بين غالبية المجتمع الفلسطيني وبعض الباحثين وبين التوراة، وذلك من خلال وضع التوراة في سياقها الديني الصحيح وتناولها بمعزل عن توظيفها سياسيًا من طرف الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال، لأن التأثُّر بتوظيفها سياسيًا يؤدي إلى حُكم مسبق بالعداء وتقييمًا بعيدًا عن الموضوعية. وأيضا يجب وضع التوراة في سياقها التاريخي الصحيح من حيث تأريخ كتابتها ودوافع صياغتها وأنها نتاج ثقافي محلي وليست دخيله على شعبنا. ورغم كثرة التفاصيل المتعلقة بالسياق الديني والتاريخي للتوراة، إلا أننا نستطيع ايجاز ذلك على النحو التالي:
1- السياق الديني للتوراة: تتقارب وتتباعد النصوص الدينية في مختلف الديانات من حيث مفهوم الإله والطقوس والسلوكيات والأخلاقيات، وهذا التمايز ما بين الديانات هو مبرر وجودها، فلو كانت الديانات جميعها متطابقة بمفاهيمها وتعاليمها لاندمجت وانصهرت كلها في ديانة واحدة، ولما وجد رجال الدين في كل ديانة المادة المناسبة التي ترتكز على الاختلاف لترسيخ ايمان أتباع تلك الديانة والعمل على استقطاب أتباع الديانات الأخرى من خلال العمل على إقناعهم بأن هذا المعتقد صحيح وذاك خطأ وأن الحق هنا والباطل هناك... ولهذا نجد أن النصوص الدينية للآخَر ليست مستهدفة بالتعديل أو الإلغاء من طرف رجال الدين، وليست سببا حقيقيا للحرب أو السلم لدى القادة السياسيين، وإنما هي مادة وأداة استخدمها ووظفها رجال الدين والسياسيين كل بطريقته وحسب حاجاته وأهدافه. والتوراة لا تخرج عن هذا السياق الديني، ولم تكن يومًا نصوصها سببًا مباشرًا للحرب مع الديانات السماوية الأخرى، وإنما هناك دائمًا أسبابًا سياسية أو اقتصادية تختفي خلف الحروب المغلَّفة بأسباب دينية.
2- السياق التاريخي: تم تأريخ بداية كتابة التوراة بالقرنين الثامن والسابع قبل الميلاد وربما الأرجح خلال القرن السابع قبل الميلاد (Finkelstein & Silberman, 2001, pp. 37, 65) وتمت صياغتها استجابة لظروف ذلك الوقت، من حيث خلق وتعزيز أسباب الوحدة بين سكان أرض كنعان بهدف الثورة والتخلص من الحكم الاشوري، لكن سنحريب أحبط هذه المحاولة بالقوة عام 701 ق.م. (السواح، 2003، صفحة 179) وفرض الضريبة على الملك حزقيا (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 264). ورغم أن المحاولة الثانية التي قادها الملك يوشيا قد فشلت وانتهت بمقتله عام 609 ق.م. (فوروهاجن، 2010، صفحة 163) على يد (نخو –أو نخاو- الثاني) (Necho II) ملك مصر، إلا أن إصلاحاته الملك يوشيا كانت جوهرية أساسية لمضمون التوراة التي نعرفها اليوم (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 276).
3- الفهم العلمي لتاريخ فلسطين: إذا أراد المواطن الفلسطيني أو الباحث الوصول إلى الفهم الصحيح لتاريخ فلسطين يجب التجرد أولا من الأحكام المسبقة والتي تعود في الغالب إلى التربية الدينية وإلى توظيف الصهيونية للروايات والنصوص التوراتية، وأهم الأحكام المسبقة التي تضلل غير المختصين وأيضا بعض الباحثين، هي التالي:
- فكرة الآخر في التربية الإسلامية: أعتقد أن الحديث عن بني اسرائيل واليهود في القرآن الكريم على أنهم الآخر هو أمر طبيعي، لأن السرد يأتي بلسان العرب في شبه الجزيرة العربية والذين يعتقدون بأنهم من سلالة اسماعيل بن ابراهيم، بينما بني اسرائيل هم أبناء يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم المتواجدون في بقعة جغرافية أخرى وهي فلسطين، وبهذا فإن سلالة يعقوب بن اسحاق هم سلالة الجد الآخر في المكان الآخر. ومن ناحية أخرى؛ بما أن القرآن الكريم موجه للمسلمين فمن الطبيعي أن يكون اليهود هم الآخر أو أحد الآخرين.
ولكن؛ ألسنا نحن السكان الأصليين لفلسطين هو الآخر والآخرين الذين تحدث عنهم القرآن الكريم! ألم نكن عندما نزل القرآن الكريم في شبه الجزيره العربية نحن الآخرين اليهود والسامريين والمسيحيين المقيمين في فلسطين! لماذا نتجرد من تاريخنا ونغترب عنه!
- فكرة الغازي الدخيل: يتصور البعض أن الانتقال من عصر الى آخر منذ العصور الحجرية كان نتيجة لدخول مجموعات بشرية من الخارج وكأن السكان الأصليون كانوا عاجزون عن التطور أو أنهم كانوا يغادرون وطنهم مع كل تطور أو عند ظهور أي ديانة ويحل محلهم شعب دخيل!. لكن الحقيقة هي أن الشعب الفلسطيني بمختلف أديانه هو الوريث الشرعي والطبيعي لتاريخ وحضارات فلسطين على مر العصور، وهو امتداد للسكان الأصليين وانعكاس للتنوع الحضاري والثقافي والعرقي، وأن كل ما على أرض فلسطين من موروث ثقاقي سواءً كان ملموسًا أو غير ملموس هو ملك للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الموروث الديني؛ لأن الشعب الفلسطيني هو امتداد للسكان الأصليين منذ العصور الحجرية والذين اختلطوا بعدة شعوب وعدة حضارات من خلال الاحتلالات المتتالية والتنقل والتجارة، وما شهدته أرض فلسطين القديمة في العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي ما هو إلا تطورا محليا تدريجيًا في نظام الحكم وفي مفهوم الإله وليس تطورًا دخيلًا؛ فمن القبيلة (يسرءِار) أو (ysry3r) (Killebrew, 2005, p. 154) في لوحة مرنبتاح عام 1208 ق.م. (Dever W. G., 2015, p. 402) إلى المملكة (هاردنج، 1959، صفحة 34)، (Ysr’l) (يسرءَل) أو (يسرأل) (Becking, 2007, pp. 54, 55) في لوحة الملك ميشع المؤابي عام 850 ق.م. (Bennett, 1911, p. 6). ومن يهوه الإله الذي بُعْبَد معه الإلَهَان إيل وبعل (السواح، 2003، صفحة 204)، والمعبودة عشيرة هي زوجته (Meshel, 2011, p. 52)، إلى محاولتان فاشلتان لعبادة يهوة بصفته إلهًا أوحد، إحداهما في عهد الملك حزقيا (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 251) والإخرى في عهد الملك يوشيا (Dever G. W., 2005, p. 71). وبقيت أرض كنعان وثنية خلال العصر الحديدي (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 242). وخلال فترة السبي البابلي كان الدمج والتنقيح وتجميع النصوص وربطها ببعضها من خلال جُمل ربط وتعليقات (Finkelstein & Silberman, 2001, p. 12).
4- إعادة تركيب الصورة التاريخية: بعد وضع التوراة في سياقها الديني والتاريخي والفهم العلمي لتاريخ فلسطين، وبعد التحرر من تأثير التوظيف الصهيوني للتوراة، يصبح من السهل علينا إعادة تركيب الصورة التاريخية لفلسطين منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، فنعرف أن الشعب الفلسطيني اليوم هو امتداد لكل ما شهدته فلسطين من حضارات وأحداث، وأننا شعب اختلط بشعوب وحضارات أخرى مثل باقي الشعوب، وحين نتحدث عن ثورات اليهود سواء الثورة ضد اليونان (Magness, 2012, p. 95) أو الثورتين ضد الرومان الأولى (Goodman, 1987, p. 1) والثانية (Sand, 2009, pp. 132, 133) فنحن نتحدث عن أجدادنا السكان الأصليين الذين كانوا يهود وثاروا ضد الاحتلالين اليوناني والروماني. أما حين نتحدث عن اليهود الذين جلبتهم الحركة الصهيونية من مختلف أنحاء العالم، فنحن نتحدث عن غرباء احتلوا فلسطين ولا يربطهم بها أي رابط تاريخي أو عرقي وإنما هو رابط ديني يعطيهم الحق بالسياحة الدينية وليس الإحتلال، فالديانة اليهودية انتشرت في مختلف أنحاء العالم مثل كل الديانات، كما حصل عندما اعتنقت مملكة حِمْيَر الديانة اليهودية عام 384 م (Maroney, 2010, p. 16) واعتنقت مملكة الخزر الديانة اليهودية عام 850 م (Brook, 2006, p. 94).
الخاتمة
البحث العلمي هو بحث عن الحقيقة، لا يسبقه عداء لمعتقدٍ ما ولا ايمان به، ولا يستهدف دينيًا أو شعبًا. وحين نتحدث عن تاريخ فلسطين لابد من التفريق ما بين المعتقد الديني والحقائق التاريخية، وبين الكتب "السماوية" وكتب التاريخ، وإذا لم يتميز الباحث العلمي في التاريخ والآثار عن غيره من غير المختصين بحياده ومنهجه وطريقة تفكيره وتحليله، فلن يخرج بنتائج علمية وسوف يبقى يكرر ويجتر نفس الأخطاء بل ويكرسها لدى عامة الناس الذين يثقون برأيه وبما ينشر على أنه المختص الذي يقدم النتائج العلمية.
حين تكون المفاهيم الشائعة الخاطئة ممزوجة بالتربية والثقافة الدينية، ليس من السهل تغييرها، ليس فقط لدى عامة الناس وإنما أيضا لدى بعض الأكاديميين الذين ما زالوا يرددون الروايات التوراتية كحقائق تاريخية عبر سنواتهم الطويلة في العمل الأكاديمي لأنهم لم يواكبوا تطور علم الآثار وما ينشره المؤرخون في مختلف أنحاء العالم، أو لأنهم يتجنبون قراءة ما يمكن أن يتناقض مع معتقداتهم الدينية وإن قرأوه يرفضوه.
ومن خلال مقارنة نتائج تحليل استبانة هذه الدراسة بنتائج دراسة أجريت قبل خمس سنوات، لمست ضرورة مواصلة الجهود التوعوية التي تستهدف المجتمع الفلسطيني، وضرورة مراجعة وتطوير مناهج الإرشاد السياحي.
لا شك أن الطريق طويل ويحتاج إلى عمل تدريجي ومدروس، لكنه عمل مهم وضروري يستحق العناء، ليس فقط لأنه يؤدي إلى فهم علمي لتاريخ فلسطين بما ينقض المزاعم الصهيونية ويخدمة عدالة القضية الفلسطينية، وإنما أيضا لأنه يعلم أبناءنا التفكير بواقعية وحياد ويحرر عقولهم ويدفعهم نحو البحث العلمي في كافة المجالات والتخصصات دون أي قيود.
المراجع
Becking, B. (2007). From David to Gedaliah: The Book of Kings as Story and History. Fribourg: Acadimic Press Fribourg.
Bennett, W. H. (1911). The Moabite Stone. New York: Charles Scribner’s Sons.
Brook, K. A. (2006). The Jews of Khazaria. Second Edition (2 ed.). Lanham: Rowman & Littlefield.
Dever, G. W. (2005). Did God Have a Wife? : Archaeology and Folk Religion in Ancient Israel. USA: Grand Rapids : Wm. B.Eerdmans Publishing Co.
Dever, W. G. (2015). The Exodus and the Bible: What Was Known; What Was Remember; What Was Forgotten? In T. E. Levy, Israel’s Exodus in Transdisciplinary Perspective: Text, Archaeology, Culture, and Geography (pp. 399-408). New York.
Douglas, J. D., & Tenney, M. C. (2011). Zondervan Illustrated Bible Dictionary. Michigan: Zondervan.
Finkelstein, I., & Silberman, N. (2001). The Bible Unearthed. New York: Simon and Schuster.
Goodman, M. (1987). The Ruling Class of Judaea: The Origins of the Jewish Revolt against Rome A.D. 66-70. Cambridge: Cambridge University Press.
Killebrew, A. E. (2005). Biblical Peoples And Ethnicity: An Archaeological Study of Egyptians, Philistines, and Early Israel, 1300-1100 B.C.E. Atlanta: Society of Biblical Literature.
Magness, J. ( 2012). The Archaeology of the Holy Land: From the Destruction of Solomon’s Temple to the Muslim Conquest. United State: Cambridge Univesity Press.
Maroney, E. ( 2010). The Other Zions: The Lost Histories of Jewish Nation. Lanham, MD: Rowman & Littlefield Publishers.
Meshel, Z. (2011). “Yahweh and his Asherah”: The Kuntillet ‘Ajrud Ostraca, Did Yahweh Have a Consort? In J. Corbett, & R. Bronder, Ten Top Biblical Archaeology Discoveries (pp. 52-67). Washington: Biblical Archaeology Society.
Sand, S. (2009). The Invention OF The Jewish People. (Y. Lotan, Trans.) London: Verso.
Streeter, B. H. (1930). The Four Gospels: A Study of Origins, Treating of the manuscript tradition, sources, authorship, & dates. London: Macmillan and co. limited.
Wasef, H. (2012). The Israelite Journey through the Wildeness - in the Sinai Peninsula. Nablus: Centre of the Good Samaritan.
القرآن الكريم
الكتاب المقدس
أبي الفداء إسماعيل ابن كثير. (1997). قصص الأنبياء (الإصدار 5). المنصورة: مؤسسة النور للنشر والإعلان.
أحمد حجازي السقا. (1995). نقد التوراة (أسفار موسى الخمسة السامرية، العبرانية، اليونانية). بيروت: دار الجليل.
جلال الدين المحلَي، و جلال الدين السيوطي. (2001). تفسير الجلالين: بهامش المصحف الشريف بالرسم العثماني (الإصدار 3). القاهرة: دار الحديث.
دعاء الشريف. (2017). التوراة تثبت أن فلسطين أرض عربية. بيروت: دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع.
سائد خليل عايش. (2007). اليهودية الأرثوذكسية. القاهرة: مركز الاعلام العربي.
ضرغام غانم فارس. (2019). تعقيدات عمل المرشد السياحي في فلسطين (رسالة دكتوراه غير منشورة). الفيوم: جامعة الفيوم.
عارف باشا العارف. (1951). تاريخ القدس. القاهرة: دار المعارف.
عبد الوهاب محمد المسيري. (1982). الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة (المجلد 60). الكويت: عالم المعرفة.
عبد الوهاب محمد المسيري. (1999). موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد. القاهرة: دار الشروق.
عبد الوهاب الكيالي. (1990). تاريخ فلسطين الحديث (الإصدار 10). عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
فاضل الربيعي. (2010). فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم (المجلد مجلدين). دمشق: دار الفكر.
فراس السواح. (1997). الحدث التوراتي والشرق الادنى القديم: نظرية كمال الصليبي في ميزان الحقائق التاريخية والآثارية (الإصدار 3). دمشق: دار علاء الدين.
فراس السواح. (2003). تاريخ أورشليم: والبحث عن مملكة اليهود (الإصدار 3). دمشق: دار علاء الدين.
كمال الصليبي. (1997). التوراة جاءت من جزيرة العرب (الإصدار 6). (عفيف الرزاز، المترجمون) بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
لانكستر هاردنج. (1959). آثار الأردن. (ذوقان الهنداوي ، المترجمون) عمان: اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة.
محمد عريدي، حمدي ابو ليلى ، و آخرون. (2017). الدراسات الاجتماعية للصف السادس (المجلد 1). رام الله.
محمد عزة دروزة. (1962). تاريخ بني اسرائيل من أسفارهم (المجلد 1). القاهرة: مطابع شركة الاعلانات الشرقية.
هانس فوروهاجن. (2010). فلسطين والشرق الأوسط بين الكتاب المقدس وعلم الآثار. (سمير طاهر، المترجمون) القاهرة: الكتب خان للنشر والتوزيع.
وزارة السياحة والآثار الفلسطينية. (2001). في ربوع فلسطين -دليل سياحي للمدارس. بيت لحم: مؤسسة الناشر.