بقلم فواز سلامة
منذ أكثر من 75 عاما، يمارس الاحتلال الإسرائيلي بوسائله الحربية والانتقاميةالمختلفة، أبشع الجرائم بحق المشهد الثقافي والحضاري والتراثي، بعقلية صهيونية بنيت على عقلية إلغائية، قائمةعلى إلغاء الآخر بكل مكوناته مقابل إثبات الذات بهدف محو كل دليل على الحياة الإنسانية الفلسطينية المتجذرة في التاريخ، ويسعى لطمس هويته الوطنية والثقافية والتراثية . هذه السياسة بالفعل، لم تبدأ منذ 7 أكتوبر من العام الماضي 2023، وإنما هي جريمة ممتدة منذ احتلال فلسطين عام 1948، تستهدف كل الجغرافيا الفلسطينية، وأينما يتواجد الفلسطيني بشكل يكاد أن يكون شبه يومي، محاولاً بشكل دؤوب خلق حيز جغرافي مفرغ من أهله وإزاحة وإزالة الدلائل المادية وغير المادية على وجوده في ارضه، واغتيال التاريخ والجغرافيا والذاكرة ،برغم إيمانه بنقيض ثقافته المصطنعة بالروايات التوراتية الكاذبة، وثقافتنا الاصيلة بجذورها وشواهدها التاريخية وتطورها وتفاعلها ونموها في كل الحقبات التاريخية، ولنجاح أهدافه، استهدف الإبادة البشرية لمحو ومسح الذاكرة والحقائق والرواية واغتيال التاريخ والجغرافيا بتنفيذ سياسات التهجير وعبرنة المسميات.
لم ينقشع بعد غبار الجريمة عن غزة، ولم تضع الحرب أوزارها لكشف حقيقة الجريمة الكبرى على الأرض، لكن ما رشح من معلومات أوليه بعد الهدنة الأولى، تكاد تقشعر لها الأبدان لهول الجريمة بكل مكوناتها واستهدافاتها ، وعلى مدار أربعة شهور ارتكب الاحتلال الإسرائيلي أكبر جريمة في الإبادة الثقافية والتطهير المعرفي، فكانت المكتبات العامة والخاصة والمتخصصة ومراكز الأرشيف والتوثيق والمراكز الثقافية والمواقع الأثرية والمتاحف والمسارح ودور النشر والمطابع ضحية هذه الجرائم، التي استهدفتها بشكل متعمد بالقنابل والقذائف الحارقة، فدمرت 70%من الممتلكات الثقافية المنقولة وغير المنقولة والتراث المادي وغير المادي .
مجمل المكونات الثقافية ساهمت في التقدم والتنمية الفكرية والثقافية، وشكلت مستودعات ثمينة للمعرفة والمعلومات، والترويج للثقافة، وأسهمت في الحفاظ على الموروث الثقافي والتراث الحضاري ودورها الأصيل في حماية الهوية الوطنية .
غزة لم تكن طارئة على التاريخ فهي جزء أصيل من الجغرافيا الفلسطينية، وتاريخها كان دوماً مسرحاً للتفاعل الحضاري البشري المستمر ، وشكلت غزة دوما مركزاً ثقافياً لكل الحضارات التي غزت المنطقة منذ أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، إمتداداً إلى اليونانيين والإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية والحقبة الإسلاميةإلى يومنا هذا .
إن الحرب الممنهجةالتي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على شعبنا استهدفت كامل المشهد الثقافي، ولم يشهد التاريخ أن استهدفت كافة المكونات الثقافية بهذه الوحشية سوى عهدين :
عهد المغول بقيادة هولاكو واحتلاله للعراق وقيام قوات المغول بتدمير المكتبات وإغراق نهر دجلة بجميع الكتب والمخطوطات التاريخية والاثرية، و عهد الاحتلال الصهيوني بقيادة بن جوريون عام 1948- 2024 .
إن الحرب على غزة أبادت ثروة غنية وهائلة من الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية، والسجلات الإدارية للمؤسسات والخرائط والمخططات التاريخية، والمواد السمعية والبصرية وسجلات الطابو و السجلات المدنية، والمقتنيات والقطع الأثرية التاريخية، ومراكز الأرشيف في البلديات، والمكتبات العامة والخاصة والجامعية ومكتبات المؤسسات الحكومية، ومكتبات المدارس والمساجد والكنائس، والتي تقدر بآلاف الكتب ومئات الألاف من الوثائق التاريخية والسجلات الإدارية .
كان ذلك من خلال تدمير وإحراق المؤسسات الحكومية الخدماتية ومؤسسات منظمة التحرير كالمجلس الوطني الفلسطيني والمجلس التشريعي ،ومباني البلديات والجامعات والمساجد والكنائس، والتي تعود لقرون عديدة والمراكز الثقافية والمباني التاريخية والاثرية والمتاحف ومعالم المدن والميادين العامة والنصب التذكارية والجداريات الفنية وهذا ينساق على المحافظات الشمالية جنين ونابلس وطولكرم.
إن ما رشح من الإحصاءات الأولية عن الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني وتقارير وزارة الثقافة ووزارة التربية التعليم، للجرائم الجسيمة لقطاع الممتلكات الثقافية، وبرغم صعوبة التوثيق،فقد دمر الاحتلال 26 مركزاً ثقافياً ومسرح وتدمير 9 دور نشر ومطابع ،و3 شركات إنتاج فني وإعلامي،و200 مبنى تاريخي وثقافي، 266 مكتبة مدرسية ،342مدرسة حكومية، و183 مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين ،126 مقراً حكومياً، و 4 جامعات ،ورافق ذلك قتل النخب العلمية والثقافية، و وقتل 44 من العلماء والمفكرين المثقفين والكتّاب والروائيين والفنانين التشكيليين والموسيقيين والمبدعين والشعراء وصنّاع المحتوى، و وقتل 94 من أساتذة الجامعات و 17 شخصية تحمل درجة البروفيسور ، 59درجة الدكتوراه، و 18 درجة الماجستير .
أنها حرب الإبادة والتطهير للمشهد الثقافي والحضاري، جرائم تثير الأسى والألم الكبير للثقافة والمعرفة البشرية، جرائم تستهدف الذاكرة والوعي وتستهدف الماضي والحاضر والمستقبل، جرائم تخالف القيم الإنسانية والأخلاقية والمعايير والمبادئ والمعاهدات والاتفاقيات الدولية وفي مقدمتها اتفاقية لاهاي لعام1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاعات المسلحة .
The Hague convention for the perfection of cultural property in the event of armed conflict
ومخالفة لمبادئ المجلس الدولي للأرشيف
International council archives
ومخالفة لمبادئ الدرع الأزرق
The blue shield
وهي هيئة استشارية لليونيسكو تهتم بشأن حماية الممتلكات الثقافية في العالم والتي تشمل المتاحف والمعالم والمواقع الأثرية والارشيفات والمكتبات والمواد السمعية والبصرية والتراث غير المادي والاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات ( إفلا)
international federation of library associations and institutions
وبموجب هذه الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، فإن المجتمع الدولي بمؤسساته الحقوقية ملزم ومطالب اليوم بتجريم تلك السلوكيات والتحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها .
والمطلوب اليوم واكثر من اي وقت مضى من المؤسسات العربية والاسلامية والاقليمية والمنظمات والمؤسسات المهنية الوقوف امام مسؤولياتها لاتخاذ ما يلزم من اجراءات وخطوات عملية لحماية الموروث الفلسطيني بكل جوانبه والتدخل السريع والتحرك الجماعي بالتنسيق مع الجهات والمؤسسات الفلسطينية صاحبة الاختصاص لتجهيز ملف متكامل للجوانب المهنية والقانونية ، يوثق كل أركان هذه الجرائم وتحديداً الفرع الاقليمي العربي للمجلس الدولي للارشيف (عربيكا) والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( الألكسو)، ومنظمة العالم الاسلامي للتربية والعلوم والثقافة ( الإيسيسكو)،والاتحاد الاسلامي لمؤسسات الارشيف .
في ظل حجم هذه الجرائم وبدون تشكيل موقف عربي اسلامي ضاغط على المؤسسات الاقليمية والدولية لوقف كل هذه الجرائم ، لا جدوى من عضويتنا وتمثيلنا في هذه المؤسسات التي ما زالت خجولة بموقفها وتكيل بمكيالين.