تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قوة التاريخ والوطنية الفلسطينية في السردية الفلسطينية

عيسى قراقع

عند مراجعتي للدراسات والأبحاث التي تتطرق الى إشكاليات بناء سردية فلسطينية متكاملة وذات تواصل تاريخي، تبين انه يوجد نقصان في الأبحاث المتخصصة بتاريخ فلسطين القديم، وان اغلب الدراسات تنصب على معالجة الفترة الحديثة المتعلقة بالنضال الفلسطيني ضد الاحتلال وإقامة الدولة وحق تقرير المصير، وعدد آخر من الباحثين يركز على تاريخ فلسطين منذ الفتح العربي الإسلامي حتى الوقت الحاضر بينما لا يعطى الاهتمام الكافي بالفترات السابقة. من الخطأ منهجيا في الكتابات التاريخية تقسيم التاريخ الفلسطيني الى فترات منفصلة ومستقلة وكأن كل فترة ليس لها علاقة بالتي سبقتها مما يساهم في بلورة هويات محلية مجزأة تجعل من التاريخ الفلسطيني مفهوما ملتبسا مكانيا وزمانيا وليس متصلا وفيه فراغات دفعت الباحثين الإسرائيليين والتوراتيين الى تعبئته بتصورات تتناقض مع الحقائق التاريخية.

 ولعل التركيز في السردية الفلسطينية على ولادة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ أواخر العهد العثماني وتطورها ما بعد النكبة ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية والايحاء بطريقة واعية او غير واعية كأن التاريخ الفلسطيني يبدأ من هذه المحطات الحاسمة في الصراع مع الحركة الصهيونية الاستعمارية يعتبر احد العوامل التي افسحت المجال للفكر الصهيوني بالسعي الى استملاك التاريخ القديم لفلسطين وتزويره وتحويره بما يتفق مع أهدافه الكولونيالية، واختلاق رواية تاريخية اسطورية وخيالية كانت مهمتها تغييب الحقوق التاريخية والوجودية للشعب الفلسطيني في ارضه فلسطين. ان الوطنية الفلسطينية المعاصرة لم تأت من فراغ، وكانت متجذرة عميقا في الماضي السحيق لفلسطين، فالوطنية الفلسطينية بكل مكوناتها هي امتداد للميراث التاريخي الفكري والثقافي الحضاري للشعب الفلسطيني منذ اقدم العصور والتي تطورت منذ آلاف السنين وتركت تأثيرها على تشكيل الوطنية الفلسطينية المعاصرة. ولا ابالغ ان قلت ان دولة فلسطين الكنعانية كانت قائمة منذ العصر البرونزي وقبل نحو 3200 سنة قبل الميلاد، دولة نشأت وتطورت عمرانيا ومدنيا وظهرت فيها مراكز حضرية كبرى وتحولت الى كيان سياسي إقليمي متميز، عاش فيها الفلسطيني بشكل متواصل ومتصل بمحيطه والمراكز الحضرية الموجودة في منطقة الشام وما بين النهرين وحوض النيل، هذه الدولة التي أنشأت نظم حكم ذاتي اقتصادية ونقدية وقضائية وإصدار عملة فلسطينية وبنت اقدم المدن التي لا زالت موجودة حتى الان، ونشأت فيها الكتابة واللغة والعادات والتقاليد والتعددية الدينية وكانت بحكم موقعها الجغرافي بدور الوسيط في التجارة الدولية وأصبحت عنصرا فاعلا في السياسة الإقليمية.

 الدولة الفلسطينية الكنعانية ذات السيادة ظلت صامدة في التاريخ رغم الغزوات والحروب والتقلبات، وظل اسم فلسطين ثابتا والأكثر شيوعا والمستخدم في كل المخطوطات والحوليات التاريخية وفي الرسائل والكتابات وظهرت فلسطين على اقدم الخرائط والنقوش، وازدهرت ثقافيا واقتصاديا وعمرانيا، وبالتالي فأن مفهوم الوطنية الفلسطينية هو مفهوم عميق الجذور في التاريخ والثقافة والميراث المادي والفكري في فلسطين. فلسطين الثابتة في التاريخ انتجت اشكالا من الوعي المستندة الى المكان، فالهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة مستمدة من التعلق بتاريخ فلسطين القديم، وهي استمرار لتسلسل بين الماضي والحاضر ، ومفهوم الماضي يعكس تماما فهمنا للحاضر، ولكل هذا فأن الهجوم الصهيوني على فلسطين بدأ على التاريخ القديم لفلسطين وهدمه وتقويضه واستبعاده بسبب ما يحمل من مفاعيل قوة في الصراع وفي بناء السردية الفلسطينية النقيضة للسردية الصهيونية. لقد وظفت إسرائيل كسلطة محتلة طاقات هائلة وامكانيات كثيرة في عملية البحث عن تاريخ لها في العصور الغابرة من اجل طرد الفلسطيني من التاريخ ونفيه والحلول محله تحت شعارات واساطير العودة الى ارض الآباء والاجداد والى ارض الميعاد والى ارض بلا شعب لشعب بلا ارض، لقد ارادت ان تخترع تاريخ لها على حساب التاريخ العريق للشعب الفلسطيني. ان استملاك الماضي هو جزء من السياسة الإسرائيلية في الحاضر ولتسويغ جرائمها واعطاءها شرعية التهويد والاستيطان والاستملاك والاستلاب والمجازر والنهب والسيطرة على المكان وخنق صوت التاريخ الفلسطيني ومنعه من التعبير عن نفسه، وبمعنى آخر إبادة التاريخ الفلسطيني القديم من الوعي والعقل والادراك والرواية، واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وصناعة تاريخ ووطن على حساب السكان الأصليين وهم الشعب الفلسطيني. ان فشل علماء الآثار الإسرائيليين في إيجاد دلائل على وجود إسرائيل القديمة في فلسطين، وعجز الدراسات التوراتية والاستشرافية عن اثبات وجود تاريخ لإسرائيل في هذه البلاد لم يوقف الجريمة المتواصلة بحق التاريخ الفلسطيني، فمنذ قيام دولة إسرائيل عام 1948 وما جاء في وثيقة الاستقلال لهذه الدولة، وما يدرس في الجامعات والمدارس اليهودية من مناهج تربوية، وما جاء في قانون القومية الإسرائيلي الذي اقر عام 2018، يوضح المنهجية القائمة عليها السردية الإسرائيلية والتي تستند على الاستحواذ على تاريخ فلسطين القديم والادعاء ان إسرائيل الحديثة تعيد بناء ماضيها القديم المزعوم. هذه السردية الإسرائيلية جوهرها ترسيخ اكذوبة الحق التاريخي لليهود في فلسطين ونفي وجود أي حق للشعب الفلسطيني في وطنهم فلسطين، وبناء أيديولوجيا عنصرية قومية متطرفة تقوم على أساس نزع الصفة الإنسانية عن ثقافة السكان الأصليين وأسلوب حياتهم ونزع ارتباطهم بفلسطين، فالفلسطينيون مجهولين في الكتب المدرسية الإسرائيلية، ينظر اليهم باعتبارهم جماعة اجنبية وطارئة يجب اختفاءهم ونفيهم وترسيخ دونيتهم. ان نهب الكتب والمكنوزات الثقافية الفلسطينية في حربي 1948 و1967 والموجودة في الارشيفات العسكرية الإسرائيلية، يخضع لمنظومة من السيطرة والمراقبة والقمع والتقييد والمحو بهدف السيطرة على رواية تاريخ الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال وتكريس قوة ورواية الدولة المحتلة من خلال محو هويتها الاصلية وتفسيرها بما يعمق هيمنة رواية المحتل وحدها، فإسرائيل تخاف من الرواية الفلسطينية او من أي مادة يمكن لها ان تدعم الرواية الفلسطينية. ان الاحتلال الإسرائيلي لا يجري فقط في الحيز الجغرافي وانما في حيزي الوعي والذاكرة، فالفلسطينيون يجب محوهم من الوعي العام، لهذا فإن الاحتلال يعمل على انتاج معرفة بديلة من خلال العديد من مراكز الأبحاث التي تسعى الى بناء رواية إسرائيلية لصالح الرواية الصهيونية المستندة الى السيطرة على الموروث التاريخي والثقافي والمادي للشعب الفلسطيني. المطلوب في التعبيرات عن الوطنية الفلسطينية في بناء السردية الفلسطينية ما يلي:

 1- من اجل تحصين مفهوم الحركة الوطنية الفلسطينية يجب استرداد الماضي وتحريره من هيمنة الرواية الصهيونية كما حصل في الهند وافريقيا وأستراليا، وان مفهوم التاريخ يجب ان لا يقتصر على الفترة الحديثة فقط.

 2- بناء السردية الفلسطينية من منظور فلسطيني خاص متحررة من الدراسات التوراتية والاستشراقية، فالتاريخ المكتوب في اغلبه هو تاريخ المنتصرين والمستعمرين ولا يمثل سجلا نزيها للأحداث، ومن هنا عند بناء السردية الفلسطينية يجب ان يكون بناء مستقلا وليس من خلال علاقة مع وجود اخر، وليكن تعريف الذات والهوية الفلسطينية منطلقا منها. 

3- التعبير عن سردية فلسطينية عميقة وبليغة يوجب التخلص من تلك النظرة التي تتعامل مع الماضي الفلسطيني وكأنه فقط الماضي الديني المسيحي او الإسلامي وهو الجدير بالاهتمام، كما هو واضح في اغلب المتاحف الفلسطينية، فعمق الذاكرة في هذه المتاحف لا يتعدى الفترة البيزنطية والرموز في اغلبها رموز دينية، وكأن الفترات التاريخية السابقة تترك للإسرائيليين.

 4- بناء سردية فلسطينية يجب ان يستند الى أبحاث علمية وعمل فني واجتماعي يستند الى أهمية تنمية علم الاثار ودراسات التاريخ والبحث والنقد التاريخي.

 5- ان تكون سردية مقاومة وتحررية مشبعة بقوة التاريخ لا تكرس فلسطين كمتحف لأقليات سكانية وتظهر كصورة خلفية او ظلال في الرواية الإسرائيلية التي تطغى على المشهد العام، كما قال ادوارد سعيد وفيصل دراج: ان المقاومة شكل من اشكال الذاكرةو في مقابل النسيان وان احتفاظ المضطهد بذاكرته شرط ضروري لتحطيم قيوده.