يبدو أن الحديث عن فكرة المكتبة الوطنية الفلسطينية ذو شجون إذا ما دققنا النظر إلى المدة الطويلة لبعثها، والتأخر الواضح على وجودها وافتتاحها. لتكون فكرتها وليدة مرسومين رئاسيين صدرا تباعا عن رئيس دولة فلسطين محمود عباس، الأول مرسوم رقم 4 لسنة 2017 الذي احتوى على 11 مادة. تلاه مرسوم رقم 6 لسنة 2019، مفصلا وواضحا في 18 مادة. كلا المرسومان يؤكدان على ضرورة الإسراع في نقل الفكرة من حيز الورق إلى الفضاء الواقعي، من خلال الانطلاق في مأسسة المشروع واختيار مكان المكتبة، وهو الموقع الذي خصصه رئيس دولة فلسطين بقرار رئاسي في منطقة سردا/ رام الله، يشمل قصر الضيافة سابقا بمساحة ما يقارب 40 دونما. القصر الآن في مرحلة الترميم لاستخدامه كمقر مؤقت للمكتبة الوطنية. بالتوازي مع ذلك انطلاق العمل بطاقم وظيفي أولي "الطاقم التأسيسي". تم في بداية انطلاق عمل المكتبة الإعداد لدراسة ما بعد ترميم المبنى، لتوفير الأثاث والتجهيزات المناسبة للوظيفة والخدمة المكتبية وفق المعايير المهنية والعملية والدولية. إضافة لذلك الشروع في إعداد هيكل تنظيمي وإداري للمكتبة الوطنية سيقدم وفق الأصول بعد المصادقة على مشروع قانون وقرار للمكتبة الوطنية. والمهم أيضا ما هو عليه المكتبة الوطنية الفلسطينية اليوم بصفتها مؤسسة وطنية وتقديمها لطلب الحصول على حصة الدولة من الترقيم الدولي الموحد، والرقم الدولي الموحد للدوريات على الصعيد الوطني لتعزيز استخدام الترقيم الدولي من قبل الناشر الفلسطيني. أما في إطار تثبيت جذور المؤسسة محليا وعربيا، تم الاشتغال على إعداد مشروع نظام الإيداع الوطني بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية، الذي سيقدم إلى مجلس الوزراء مزامنة مع مشروع قانون حقوق المؤلف. وإلحاق الأرشيف الوطني الفلسطيني بالمكتبة الوطنية منذ تاريخ صدور المرسوم الرئاسي لعام 2019. أخيرا تم الانضمام للاتحاد الدولي للمكتبات في خطوة تفتح الآفاق على نجاحات المكتبات العربية والاستفادة من خبراتها، وإرساء شراكات جديدة تهدف لاستدامة ثقافية، لما في ذلك من ضرورة على صعيد جمع التراث الفكري والإنساني الفلسطيني، ومواكبة تقدم الدول المزدهرة فيها أنشطة المكتبات الوطنية، وتشكيل قاعدة بيانات للنتاج الحضاري فلسطينيا وعالميا. لتقديم الصورة الصحيحة للرواية الفلسطينية وحقيقة سردية التاريخ المزور، والذي يقدم للعالم بأساليب تهويدية. ولعل تهويد الثقافة الفلسطينية من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي، هو محور جدلية الصراع القائم على المحو والطمس، لبناء ثقافة هجينة لا تمت لمدعيها بصلة. وهي المرآة التي تعكس حجم المعاناة الثقافية للمهتمين في تجميع وحفظ الهوية الفلسطينية، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات وطنية. لذلك يمكن بسهولة من خلال ما تقدم النظر بزاوية ثابتة لضرورة وأهمية إنشاء المكتبة الوطنية، لكونه يعتبر قرارا استراتيجيا وسياديا وجزء من المقاومة والصمود الفلسطيني، وحماية هويته الثقافية أمام تحديات تهدد الوجود الفلسطيني وذاكرته الوطنية؛ ليس ماديا فقط، وإنما ثقافيا، فالحرب على الوعي أخطر من الحرب العسكرية الكلاسيكية، إذ يشمل الحرب على التاريخ والزمان الفلسطيني والسيطرة عليهما وإسكاتهما. من هنا سيكون على عاتق المكتبة الوطنية الفلسطينية ومن مسؤولياتها تحرير الإرث الثقافي الفلسطيني البصري والمكتوب من الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، واستعادته والمطالبة به، لا سيّما أن هذا المكتوب الثقافي لا يتعرض فقط للحجز وإنما للمحو، ولقوانين رقابة صارمة، أخطر ما فيها أنه يعاد تحويرها لإنتاج معرفة بديلة، بإعادة كتابتها لصالح الرواية الصهيونية ومضامينها الاستعمارية. ويمكن ملاحظة ذلك في منهجية الاضطهاد والمحو التي مورست على رسالة الفلسطيني عن نفسه وعن تراثه وفكره خلال المشوار الطويل في نضاله ضد الاحتلال، ومشواره الحضاري الممتد منذ أن اكتشفت الزراعة لأول مرة في العالم على أرضه، كذلك لأول مدينة بنيت في العالم -أريحا- بنمط معماري له خصوصياته وهويته الخاصة، حيث يعود بداية التوطن البشري فيها إلى 10500سنة ق.م . في عهد الحضارة النطوفية ، ويجسد هذا المكان أقدم مدينة محصنة في الشرق الأدنى القديم. فجاءت الرؤية الوطنية لضرورة توثيق تاريخ هذا الشعب ومحاولة لم شتاته الثقافي والهوياتي، كهدف أولي، واعتبار المتطلبات الأكاديمية والعلمية ضرورة للمجتمع الفلسطيني الذي انخفضت فيه نسبة الأمية خلال العقدين الماضيين لتصل خلال عام 2020 إلى 2.5% بين الأفراد 15سنة فأكثر، وهي من أقل معدلات الأمية في العالم. لذلك يعتبر هذا المشروع الريادي ذو وظائف متعددة وآنية، تبعا للظرفية الفلسطينية الخاصة، وما يحققه هذا الصرح من أهداف تأخر الزمن عليها كثيرا، خاصة ما يتعلق بالبحث العلمي، والأرشيف الوطني، والدراسات والأبحاث المهتمة بنقد وتبيان مصداقية الرواية التوراتية، ما تحمله من مزاعم وادعاءات لا علاقة لها بما اكتشف من لقى وقطع أثرية منذ أولى البعثات الأثرية إلى فلسطين عام 1863. حاول المستكشفون الإسرائيليون فيها ربط الدولة بجذور تسهل عليهم فيما بعد تسريع نشر فكرة أرض الميعاد للمشتتين في المشرق والمغرب والعالم من اليهود، ليُسَهل ذلك عليهم لاحقا الاندماج في السردية الصهيونية. حيث أنها اتخذت طابع الإبادة الثقافية والحقيقية للأسماء الفلسطينية، خاصة القرى والبلدات بعد سيطرتهم على الخرائط والوثائق التي كانت بحوزة الانتداب البريطاني. تأسست لتناسب هذا الهدف لجنة للتسميات تعود إلى عشرينيات القرن العشرين، مهمتها تهويد المناطق بتاريخها وما تحويه، خاصة المناطق التي سيطر عليها الصندوق القومي اليهودي. لتصبح هذه اللجنة لاحقا فرعا من فروع هذا الصندوق، وأصبحت بصورة منظمة وبمساعدة علماء الآثار والجغرافيا تمحو التاريخ والتراث الفلسطيني القديم والحديث من التقارير والخرائط . بدأت تلقائيا بعد ما تقدم ذكره سلسلة أنشطة ممنهجة لإخفاء كل ما له علاقة بفلسطين، مثلا عام 1949 جرى تلفيق حكايات أسطورية إسرائيلية مفادها أنه عندما وصلوا إلى فلسطين كان فيها عدد قليل من السكان العدوانيين والمتخلفين والبدو. حتى أن المكتب العالمي للآثار التابع لليونسكو وصف أعمالهم التي قاموا فيها بأنها "جرائم حرب ضد التراث الثقافي للبشرية". حتى أنه خلال الخمسينيات من القرن العشرين سمحت الحكومة الإسرائيلية بنهب المواقع المقدسة الإسلامية والمسيحية والمتاحف والسجلات وتدميرها، وأخبر بعض علماء الآثار الإسرائيليين الذين عارضوا ما حدث أن العرب فعلوا ذلك، ومن يعارض هذا يجبر على الاستقالة. واستمر هذا الفعل التعسفي بحق الثقافة الفلسطينية عقودا طويلة حتى وقتنا الحاضر، مما يجعلنا نطرح عديد الإشكاليات التي تواجهها المكتبة الوطنية في ظل أزمة وجود الاحتلال: 1/ كيف يمكن للمكتبة تجميع الإرث الثقافي الفلسطيني والذي يقع الآن تحت سيطرة دولة الاحتلال؟ 2/ ما هي التشريعات الدولية التي تكفل للمكتبة الوطنية الفلسطينية أن لا تمس مقتنياتها بسوء في حال مارست نشاطاتها؟ 3/ إلى أي حد سيكون العمل المنجز فيها يرتقى أكاديميا وثقافيا لمستوى تطلعات المهتمين والباحثين في ظل الهيمنة الشرسة لدولة الاحتلال إعلاميا وسياسيا وثقافيا؟ لتدارك الوضعية، عام 2009 اختارت اليونسكو القدس الشرقية لتكون عاصمة العرب الثقافية، فأعلنت الحكومة الإسرائيلية مباشرة منع أي احتفالات أو تظاهرات ثقافية، وحظرت جميع الفعاليات المدعومة من اليونسكو، في القدس والناصرة وأغلب التجمعات الفلسطينية ومدن الداخل المحتل. إضافة إلى ذلك يرزح فلسطينيو الضفة الغربية تحت قرابة 1500 قانون عسكري معظمها يهاجم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ثقافيا، حتى أن القانون العسكري رقم 938 جعل حمل العلم الفلسطيني أو الاستماع إلى الموسيقى الوطنية أمر غير قانوني. قياسا على ذلك جميع المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس المحتلة، تعاني من أوامر الإغلاق والاقتحامات المتكررة والمصادرة للمحتويات والمقتنيات. فيحضر السؤال الذي لا يمكن تغاضيه؛ ما هي حدود حرية المعرفة والثقافة في فلسطين في ظل أزمة دولة استعمار واحتلال، وما هي الظروف الواجب توفرها لممارسة شرط هام من شروط الإنسانية ألا وهو ديمقراطية المعرفة؟ لعل ما تقدم يوضح أسباب تأخر إنشاء المكتبة الوطنية الفلسطينية، إذ أن السيرورة التاريخية لإنشاء المكتبات الوطنية داخل الدول، كانت وفق ظروف آمنة، لتحقق الأهداف المنشودة المتمثلة في حصر وجمع التراث الفكري والوطني المطبوع والتعريف به، ووضع الخطط الوطنية لأنظمة المكتبات والمعلومات والوثائق من الجهات المعنية، وتنفيذ برامج استثمار المعلومات بما في ذلك إنشاء شبكة معلومات تعاونية بين المكتبات ومراكز المعلومات، أيضا إعداد ونشر البحوث والدراسات والأدلة الخاصة بأعمال المكتبات والمعلومات، وأخيرا توفير الكتب المطبوعة والإلكترونية وتسهيل الوصول إليها. هذه المهام هي استجابة طبيعية لأهمية وجود المكتبة، بما يحققه دورها من جمع وحفظ وتأمين المنجز التراثي الإنساني (الفكري والعلمي والثقافي والاجتماعي والديني ...) خاصة إذا كانت الدول المُنشئة ذات سيادة كاملة على التراب الوطني، تسعى للمزيد من التقديم لذاتها ولهويتها. لهذا تعتبر المكتبة الوطنية الفلسطينية أول مكتبة وطنية تقام تحت أطول احتلال معاصر، وهذا بحد ذاته يشكل أزمة حقيقية في إدارة المكتبة على أصعدة متعددة، تهم الثقافة والحريات، وكذلك الأنشطة التي توثق التاريخ الفلسطيني الكامل القديم والمعاصر، خاصة أن فلسطين قبل الاحتلال كانت كتلة جسدية واحدة، إذ لا يعقل اليوم الحديث عن جزء مبتور منها دون دراسات شاملة ووافية للتاريخ الواحد المشترك للفلسطينيين. ولا بد من أجل تحقيق هذه الغاية، تجميع كل الأرشيف الفلسطيني، والرسائل العلمية، والكتب الفلسطينية والعربية والأجنبية، والمخطوطات والروايات، وإدخالها عبر برمجيات خاصة لدائرة الإيداع، لما في ذلك من ضمانات هامة للتوثيق والحفظ عن أيدي المحتلين، كذلك ما يمكن أن يحدث من أزمات عالمية كالأمراض والأوبئة، والتي تحيل بين ممارسة الأفراد لنشاطهم المعتاد، فيتوفر لهم الرصيد المعرفي والأرشيفي في فضاء إلكتروني، يمكنهم استعماله بحرية ودون قيود، ليخفف من معيقات التنقل والسفر، في ظل وجود حواجز عسكرية على جميع مداخل الضفة الغربية. لا يفوتنا في هذا المقام التذكير بالمذبحة الثقافية للأرشيف الفلسطيني في بيروت عام 1982، إذ كان أول الأهداف العسكرية الإسرائيلية للوجود الفلسطيني فيها، وفعلا أتلف جزء كبير منه، وجزء آخر تم ترحيله إلى الجزائر لحمايته. كذلك تدمير القوات الإسرائيلية لوزارة الثقافة الفلسطينية عام 2002. السبب الرئيسي وراء كل هذه المحاربة لمشروع وطني فلسطيني يشتمل على كل ما له علاقة مباشرة بالشعب الفلسطيني أو بتاريخه الإنساني المشترك، هو أن قيام دولة إسرائيل اعتمد على الرواية التوراتية، وأن المواقع التي اكتشفت تقدمها الأبحاث الأركيولوجية على أنها الشواهد المادية على مدى صحة ما ورد في التوراة ، مما يجعل مهمة التوثيق وتقديم رؤية فلسطينية لا تحمل الرسالة الدفاعية بصفتنا أصحاب حق وتاريخ وأصول، محفوفة بالمصاعب والمعيقات، على رأسها أن من يقدم رؤية فلسطينية جديدة للإرث المعماري وللحفريات القديمة بعيدا عن التوراة، هو من يتعمد إنكار الدين اليهودي، ويندرج الخطاب لاحقا أمام معاداة السامية، ولذلك يصبح العمل الثقافي والعلمي للمكتبة الوطنية محفوف بالمخاطر، ويتطلب ضمانات عالمية من مؤسسات ذات علاقة بالمكتبات. وعلى علاقة بالرواية التوراتية المزعومة يمكن رصد ما تم الاستيلاء عليه من ممتلكات ثقافية في منازل الفلسطينيين الذين تم ترهيبهم وتهجيرهم وكان عددهم يقارب (726.000) فلسطيني ، إذ لا يمكن تخيل حجم الممتلكات التي كانت بحوزتهم في منازلهم، من كتب وقطع نادرة واسطوانات بصرية وسمعية، ومقتنيات ذات جذور فلسطينية إسلامية ومسيحية. إذا أمعنا النظر جيدا في هذا الرقم، سنعي جيدا مأساة الثقافة الفلسطينية الحالية، وأزمة المكتبة الوطنية في جمع التراث الإنساني الفلسطيني، فحتى وإن سابقنا الزمن تجميع وإيداع وأرشفة كل ما له علاقة بفلسطين، سيبقى في المحصلة ضئيل ويلزمه تعاون دولي وأممي لوضع المكتبة في مسارها الطبيعي، من خلال توفير بيئة آمنة مع المكتبات الكبرى التي تحتوي على أرشيفنا وقطعنا الفلسطينية، مثل المملكة المتحدة، وتركيا. إضافة إلى أرشيفنا الفلسطيني في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. يضاف إلى الصعوبة في التجميع للمفقودات، هو تدارك حجم المفقودات الشخصية والوطنية، وحديث الاحتلال عن فكرة التعويض بداية 1949-1951 لمن خرجوا من أرضهم كانت فكرة مادية شاملة وليست فردية، للمنازل والأراضي، لكن الخطير هنا أنها لم تطرح فكرة المفقودات الثقافية، التي لا يمكن المتاجرة فيها أو تعويضها، واستولت عليها واعتبرتها غنيمة حرب وأخضعتها لقانون أملاك الغائبين، وتعرض جزء منها في متاحفها الوطنية والعالمية، وجزء كبير لا زال مقيدا أو محتجزا في الأرشيف العسكري الإسرائيلي، هو بحد ذاته معضلة كبرى تواجه المكتبة الفلسطينية وهدفها التوثيقي والتأريخي تحت الاحتلال. لا يمكن المرور عن أبرز المؤرخين الإسرائيليين ( إيلان بابه)، الذي كتب عن مجازر دولة الاحتلال الإسرائيلي بكل موضوعية متجاوزا البعد الديني والعقائدي والسياسي. في كتابه الشهير " التطهير العرقي في فلسطين" يضعنا الكاتب أمام أزمة حقيقية تمس الثقافة، وهي التطهير والمسح الكامل للجذور الثقافية الفلسطينية، ويقابلها الإحلال ونَسب الثقافة إلى المشروع الصهيوني الذي يعتمد بالأساس على الرواية، إذ أن دولة الاحتلال ستحاول بشتى الطرق التضييق على الفكرة وأبعادها، كذلك لا يخلو الأمر من تخوفات المصادرة والاقتحامات العسكرية لمقر المكتبة والاستيلاء مرة أخرى بنفس الأدوات والرؤية على كل ما يمكن أن تضمه الرفوف والمخازن. حيث يبدو "التطهير العرقي أولوية إسرائيلية لا علاقة لها بهرمية الأكثر حظا أو الأقل حظا بين الفلسطينيين". ومما ذكره الكاتب في صفحات كتابه عن ضباط الهاغاناة وادعائهم بكبح سعار النهب الذي تملك مرؤسيهم في العمل العسكري أثناء طرد السكان الفلسطينيين من منازلهم، وأن كل ما وجد من مقتنيات وجد طريقه إلى صالونات ومزارع الضباط كتذكارات حرب. والجدير ذكره هنا أن من بين العوامل المؤثرة على دور المكتبة وفاعليتها، إضافة لما سبق، أن الصهيونية لا تتخذ من المنحى السياسي ركيزة وهدفا، وإنما تمارس صهيونية ثقافية، إذ قبل أن ينشأ الاحتلال دولته أنشأ المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وتحوي اليوم على رفوفها ما يقارب (4.100.000) كتاب،(2.500.000) صورة، (106.141) صحف ودوريات، (609.809) مخطوط، (12.167) خرائط، (148.131) ملصقات، (282.132) تسجيلات موسيقية. ولعل هذا الإنشاء المبكر والنهب المبكر لتراث اليهود اليمنيين، وتراث الشعب الفلسطيني، وكل مقتنيات الدولة العثمانية، وما للانتداب البريطاني من خرائط ووثائق، ليس إلا مشروعا ممنهجا لكسب "حرب الرواية" والذاكرة ليست إلا ما يمكن تقديمه من شواهد. دون أن يغيب عن الأذهان أن قيام دولة الاحتلال بعرض جزء من الموروث الثقافي الفلسطيني في المكتبة الوطنية الإسرائيلية أو في عدد من المتاحف، والهدف من ذلك إظهار أن الوجود الفلسطيني كخيط رفيع في المشهد الإسرائيلي الأكبر، والتعامل مع السكان الفلسطينيين كأقليات أو طوائف بلا حقوق سياسية، إضافة إلى استخدام ذلك كغطاء للإدعاء بالديمقراطية الإسرائيلية. وسنجد أن جمع كتب الفلسطينيين إبان حرب 1948 عبر مصطلحي "الرأفة والإنقاذ" ما هو إلا سلبا ثقافيا رآه أصحابها. لنجد أن قرابة 30.000 ألف كتاب كانت ملكيتها خالصة للفلسطينيين أثناء الحرب عام1948، تم تحويلها إلى جزء من مجموعات الكتب في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وهو ليس إلا مصادرة للحيز النفساني والذاكرة الشخصية لصالح الذاكرة الجمعية والحيز الإيديولوجي والفعل العدواني على هذا الرصيد الثقافي الفلسطيني، وهو يؤكد أسلوب الهمجية "لإبادة المكتبات" ومحو تاريخها وجذورها. وأن الإبادة الحاصلة للحقوق الثقافية للشعب الفلسطيني ليست إلا تطبيقا حرفيا لممارسة النازيين. فتم هرس (26.315) كتاب تبعا لقرار الوصي على أملاك الغائبين عام 1957، لاعتبارها تلحق ضررا بالدولة، وتم السيطرة والمصادرة لمكتبات هامة، مثل مكتبة محمد إسعاف النشاشيبي، وكذلك مكتبة خليل السكاكيني الذي كتب نصا في وداع مكتبته "الوداع يا مكتبتي، يا دار الحكمة، يا رواق الفلسفة، يا معهد العلم، وندوة الأدب، الوداع يا كتبي النفيسة القيمة المختارة" كذلك مكتبة يعقوب فرج، خليل بيدس، د.توفيق كنعان، فؤاد أبو رحمة، وغيرهم من الأسماء التي لها مكتبات شخصية. يظهر إذن أن المكتبات لا تقتصر قيمتها على تجميع الكتب وتخزينها، إنها وسائل لتنظيم المعرفة والسيطرة للإشراف عليها، ورغبة دولة فلسطين من بعث المكتبة الوطنية هو إعادة ترميم الموروث الثقافي والهوية الجمعية، ويهمنا الاستفادة من تجارب الدول التي قطعت شوطا طويلا في هذا المضمار لإنجاح هذا المشروع الواعد، كذلك خبراتها وتقنياتها وتشريعاتها وقوانينها وأنظمتها ووسائل حماية الموروث الثقافي والحفاظ عليه، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية والأرشيف الرقمي والإلكتروني، إضافة إلى توفير وسائل حماية دولية وقانونية، في ظل انضمام دولة فلسطين إلى العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ومن ضمنها (اليونسكو). من جملتها: 1/ اتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي، دخلت حيز التنفيذ عام 2011. 2/ اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي، دخلت حيز التنفيذ عام 2012. 3/ ميثاق (دستور) اليونسكو، دخل حيز التنفيذ عام 2011. 4/ اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح مع لوائح تنفيذ الاتفاقية 1954، دخلت حيز التنفيذ عام 2012. 5/ اتفاقية بشأن الوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، دخلت حيز التنفيذ عام 2012. 6/ البروتوكول الأول لاتفاقية لاهاي بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي بشأن حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. دخلتا حيز التنفيذ عام 2012. الخاتمة: تعد الادارة أداة تطوير المكتبات و مراكز المعلومات ووسيلة لتقدمها ورقيها و رفاهته، عن طريق الاستغلال الأمثل للإمكانيات المادية و البشرية بغرض تحقيق الاهداف المرسومة. والوصول إلى المكتبة الرقمية كمشروع لاحق وأحد مشاريع المكتبة الضرورية، اعتمادا على تقنيات الرقمنة، والمواقع الإلكترونية. ثم أن الجهود الوطنية الفلسطينية تمشي بخطوات جادة ومتزنة في اتجاهها الصحيح، لبناء صرح وطني يهم جميع الفلسطينيين، والدور الذي يقع على عاتق الإدارة في المكتبة، يأخذ بالفكرة من حيزها الافتراضي إلى العملي، بخطوات مدروسة، وخطط مرسومة بدقة. وتنظيم للجهود، و تنسيق الموارد المادية والبشرية والتكنولوجية واستثمارها بأقصى درجة ممكنة من خلال التخطيط و التنظيم و القيادة و الاشراف و الرقابة، و ذلك للحصول على أفضل النتائج و تحقيق الاهداف المطلوبة باقل جهد ووقت ممكنين. مثلما صمد الفلسطيني طويلا على أرضه وكان الإصرار قُوتَه وقُوّته، ستمر الحتمية القدرية إلى مستقرها، بأن تفتح المكتبة الوطنية أبوابها، وتقدم خدماتها، وتطور من رؤيتها.وعينا الوطني والمهني هو وقود هذا المشروع، فلا بد لهذا الظلم من أن يطلع فجره، ويقدم الفلسطيني في كل مكان تراثه وفكره الإنساني بكل حرية وفخر، لأننا لا نثق إلا بأحقية الحق، وزوال الاحتلال. مشاركتنا في هذا المؤتمر الهام، جاءت لاعتبارات وطنية ومعرفية وإنسانية، حِرصنا على أن يكون بعث المشروع الوطني وإفتتاح المكتبة من خلال تظافر الجهود الوطنية والعربية، على اعتبار أننا شركاء في الإنسانية والتاريخ. وهذه المشاركة ما هي إلا دعم ومساندة ثقافتنا الفلسطينية الوطنية، وإبرازها، وتقديمها كما يجب. نورد هنا بعض التوصيات الهامة لتضافر الجهود الجماعية في العمل لأجل الثقافة الفلسطينية: 1/ نوصي جهات الاختصاص العربية والاقليمية والدولية وتحديداً الاتحاد الدولي للمكتبات والمعلومات والاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات والفرع الاقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف بأن تكون المكتبة الوطنية جزءاً من برامجها التطويرية والتأهيلية . 2/ ضرورة تبني الاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات انشاء منصة رقمية عربية موحدة يتم من خلالها جمع وتحقيق وترجمة ونشر الانتاج الفكري والموروث الثقافي العربي والاسلامي الغني والمتنوع. 3/ نوصي بأن يكون مشروع المكتبة الوطنية الفلسطينية جزأً من توصيات هذا المؤتمر لتوجيه الدعم والاسناد في كافة مجالات البناء والتطوير، نظراً لأهمية دور المكتبة الوطنية في تعزيز وإسناد الرواية التاريخية الفلسطينية. 4/ توفير الدعم الخبراتي والمعرفي لمشروع المكتبة الوطنية في مجال الخبراء والمستشارين، إضافة إلى تدريب الموظفين. 5/ تطوير ودعم البحث العلمي، وكتابة أبحاث عن تاريخ فلسطين، بالتعاون مع المكتبات والباحثين. 6/ تشبيك المكتبة الوطنية الفلسطينية مع المكتبات الوطنية في العالم العربي، وعقد الاتفاقيات الدولية الثنائية. 7/ ضرورة تظافر جهود المكتبات الوطنية العربية في اسناد مهام المكتبة الوطنية الفلسطينية وتحديداً في عمليات تجميع الانتاج الفكري والثقافي الفلسطيني المتوفر لديها، في الوقت الذي تتوفر فيه التكنولوجيا الحديثة وخدمات تبادل المعلومات. المراجع بالعربية: 1/ الأحمد، سامي سعيد، تاريخ فلسطين القديم، سلسلة الدراسات الفلسطينية، مركز الدراسات الفلسطينية. 2/ بابه، إيلان، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة: خليفة، أحمد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط5، رام الله، 2012. 3/ دافيدسون، لورنس، الإبادة الثقافية، ترجمة: الشهابي، منار إبراهيم، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2017. 4/ حسين، نسب أديب، المتاحف والصراع الفلسطيني الإسرائيلي على هوية القدس الثقافية المعاصرة، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2020. 5/ سيلع،رونة، لمعاينة الجمهور- الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، مركز مدار للدراسات الإسرائيلية،2018. 6/ عميت،غيش، بطاقة ملكية:تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، ترجمة: حليحل،علاء، المركز الفلسطيني للداراسات رام الله، 2015. 7/ فارس، ضرغام، الروايات التوراتية ما بين السياحة والسياسة وعلم الآثار، كتبنا. 8/ فيشباخ، مايكل ر،سجلات السلب أملاك اللاجئين الفلسطينيين والصراع العربي الإسرائيلي،مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت،2013. المراجع بالإنجليزية: /1 Negav, Avraham, Gibson,shimon. Archaeological Encyclopedia of the Holy Land, the jerusalem publishing house Limited. /2Sala, Maura. The Archaeological Expedition to tell es-sultan (1868-2012). United kingdome. المواقع الإلكترونية: /1 https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9145 /2https://www.nli.org.il/ar