تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

التراث اللغوي الكنعاني وتأصيل البحث التاريخي

1

آراء
الكاتب: تحسين يقين

الاستثمار في التاريخ لعله الطريق الأمثل لاستعادة الجغرافيا. سـ"أجوجل" عبارة: "تاريخ فلسطين أكبر من جغرافيتها"، المنسوبة لمحمود درويش، لكنني لا أعثر على توثيق محدد.
بعد استعراض كتاب "التّراث الّلغوي الكنعاني المكتوب من فلسطين"، الذي صدر عن المكتبة الوطنية الفلسطينية، وجدت نفسي أعود لشعر محمود درويش، حين قال:
"أنا لغتي أنا
وأنا معلقة... معلقتان... عشر، هذه لغتي
... فلتنتصر لغتي على الدهر العدو، على شلالاتي،
على أبي، وعلى زوال لا يزول
هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى،
ومعدني الصقيل"
الأبيات من قصيدة "قافية من أجل المعلقات"، من ديوان لماذا تركت الحصان وحيدا" الصادر عام 1995.
أمران لا يضرّ تكرار الحديث للتذكير بهما حول التاريخ: الأول تركيز التعليم على التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، والثاني تركيزه فيما يخص الحضارة القديمة، وعدم اقتصار التاريخ على الحضارة العربية في آخر 15 قرناً.  
يأتي كتاب "التّراث الّلغوي الكنعاني المكتوب من فلسطين"، للباحث د. عصام الحلايقة رئيس دائرة التاريخ والآثار في جامعة بيرزيت، في سياق تأصيل البحث في الحضارة الكنعانية.
ولعلّ أهمية الكتاب، هي في ما قدمته الحضارة الكنعانية من أبجدية صارت أساسا لأبجديات اللغات في العالم، وهو ما جعلني أبتدئ بشعر محمود درويش.
في الوقت الذي يفصل الكتاب كيف صارت الأبجدية الكنعانية أساساً لغزياً عالمياً، بالانتقال من المحلية المكانية إلى خارج الإقليم، لتصير أبجدية دولية، فإن الكتاب يعرض بطريقة مشوّقة تطور الإشارات اللغوية والصورية، إلى حروف، وما مرّت به من تشكيلات، تجعلنا ونحن نرى أي لغة نتذكر ما جرى من تحويرات وتعديلات على ما كتب من حروف للتواصل بين البشر. ولفلسطين الكنعانية أن تزهو بما قدمت من مقترح إنساني للتواصل تم اعتماده، بحيث صار ليس فقط للتواصل بل للتوثيق والتفكير والسرد.
جهد عظيم ما فعله عصام حلايقة، وهو يتتبع الأبجدية، ويستقصي النّقوش والكتابات والجعلان الكنعانيّة التي نقشت على مواد متنوعة كُتِبتْ على الحجارة والفخّار والجِلد والمعادن، وقام بتوثيق ذلك، حيث زُوّد الكتاب بأكثر من 206 من النّماذج التّوضيحيّة كالصّور والخرائط والجداول والفهارس.
 تناول حلايقة "النّقوش والأبجديّات الكنعانيّة على امتداد نحو ألفٍ وثلاثمائة سنة من القرن التاسع عشر قبل الميلاد مع أوّل ظهور للأبجديّة، وحتّى نهاية القرن السّابع قبل الميلاد حين تراجعت الكتابة الكنعانيّة لصالح الآراميّة باعتبارها لغة دوليّة، وتتزامن مع فترة العصر البرونزيّ الوسيط والمتأخّر والعصر الحديديّ الأوّل والثّاني، وهي مرحلة اتّسمت بالتّمدّن في التّاريخ الحضاريّ الفلسطينيّ".
ليست لغة فقط، بل هي سردية تقترب من الأدب، هذا ما قرأناه في الكتاب عن نقش نفق سلوان، في القرن الثامن قبل الميلاد، "يحتفي النص بلحظة التقاء فريقين من العاملين في حفر النفق...كان العمال ينحتون في الجبل من ناحيتين، واستمر العمل الى ان التقى العمال في الوسط...". كم هو جميل ومشوق فعلاً هذا الوصف اللغوي المنقوش.
كذلك الحال مع كسرة فخار يبنا، التي كتب عليها عامل في مزرعة رسالة الى حاكم قلعة تتعلق بمصادرة ثيابه التي يعتبرها الكاتب عملية غير عادلة، وهي مناشدة للحاكم بإعادة ثوبه المصادر:
ليسمع سيدي الحاكم مناشدة عبده..عبدك
هو ذا عبدك كان يحصد
بعدما انتهى عبدك من تخزين غلاله
جاء حتبيهو بن شوبي
وأخذ ثوب عبدك
يشهد معي جميع أخوتي الذين يحصدون معي في حر الشمس
إذا كان الحاكم لا يعتبر أن عليه أن يرجعه، لذا من باب الرحمة يجب ألا يظل صامتاً".
إن تأمل هذا النص المنقوش، يظهر مستوى راقياً ليس في السرد، بل في توضيح حضور القيم الإنسانية، كـ "عقد اجتماعي" قديم بين الحاكم والمحكوم.
"ويُبرز هذا العمل دور الكتابات الكنعانيّة، باعتبارها مصدراً أوّليّاً لتاريخ فلسطين القديم، وهي تقدّم معلومات تاريخيّة حول الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة والمعتقدات الدّينيّة لمجتمع دولة المدينة الكنعاني، وتشمل أحداثًا سياسيّة مهمّة وأسماء الأماكن، والأعلام، وأسماء الآلهة الكنعانيّة، وأسماء أقوام وإثنيّات وفئات اجتماعيّة، ومعلومات أبجديّة وتعليميّة." مثال ذلك نموذج لعن الحكام الآسيويين، بما تم توثيقه حول التحول من الحياة البدوية غير المستقرة الى أنماط الحياة المستقرة" في القرنين العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد.
وهنا نذكر ما أكده د. حمدان طه محرر الكتاب، في معرض تقديمه للكتاب "أن النّقوش والكتابات تقدّم مصدراً هامّاً للتّعريف بالجغرافيا التّاريخيّة لفلسطين، فقد ذكرت أسماء فلسطين القديمة، كريتنو العليا وكريتنو السّفلى وجاهي وكنعان، وذكرت أسماء المدن القديمة في سياق الحملات العسكريّة المصريّة على كنعان والتّبادلات التّجارية في نصوص الّلعن المصرية من القرن الثّامن عشر قبل الميلاد، وفي سجلّ حملة تحتمس الثّالث ورمسيس والعديد من الكتابات التي وصفت المشهد الطبيعي في فلسطين، كما قدّمت قصّة الضّابط المصري سنوحي وصفاً حيّاً للمشهد الطّبيعي في فلسطين، واصفاً طبوغرافيّتها وزراعتها وثمارها وعادات السّكّان فيها".
وأخيراً نختتم بالعلاقات اللغوية بين أرض كنعان ومصر، وتمثيل الكنعانيين في الفن التشكيلي المصري، مثل ما صورته مسلة من تل العمارنة لرجل كنعاني وزوجته المصرية، وذكر التجارة القوية بين الإقليمين، وما احتوته رسائل تل العمارنة من حديث عن التحالفات. وما قصة سنوحي المصري الذي جاء الى فلسطين إلا سردية أدبية رفيعة المستوى أدبياً وتوثيقياً. إن سردية سنوحي التي جرت بداية عصر البرونز، وما فيها من  اجتياز السور الحدودي، وإقامته عند شيخ قبيلة الطعام والطرق وزواجه من ابنته، هي سردية مشوقة فعلاً، تحيلنا الى قصص متشابهة، مثل جوانب من قصة سيدنا موسى عليه السلام، حين التقى سيدنا شعيب عليه السلام.
لقد وفّر الكتاب مصدراً للأدبيات القديمة، والتي إن تم تجميعها، ستشكل مجالاً لدراسة أدبية تتعلق بالسرد القديم ودلالاته المتنوعة، والتي تظهر الجانب الحضاري المتنور الذي كان في بلادنا التي ساهمت بقوة في بناء الحضارة الإنسانية.
صدر الكتاب عن المكتبة الوطنية 2024، وقع في 440 صفحة من القطع الكبير، وهو من تحرير د.حمدان طه.