شاركت المكتبة الوطنية الفلسطينية في مؤتمر دائرة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في منظمة التحرير الفلسطينية، الذي عقد في مبنى المنظمة في مدينة البيرة، بتاريخ 12-2-2024، الموافق ليوم الاثنين، تحت عنوان "جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية".
وألقى الأستاذ ناصر دمج كلمة المكتبة الوطنية الفلسطينية، بالنيابة عن رئيس المكتبة عيسى قراقع، وجاء فيها:
معالي رئيس دائرة حقوق الإنسان والمجتمع المدني في منظمة التحرير الفلسطينية أحمد سعيد التميمي حفظه الله
السيدات والسادة
الحضور الكريم
أمام تواصل الإبادة الجماعية المهولة في قطاع غزة للشهر الرابع على التوالي، أدعو فقهاء القانون الدولي ومشرعي مبادئ حقوق الإنسان أن يعيدوا النظر في كل ما سطروه من اتفاقيات وصكوك ومواثيق حول قواعد الحرب في النزاعات المسلحة وحماية حقوق الإنسان والسكان المدنيين، لأن كل هذه المنظومة الحقوقية أصبحت في محك اختبار، وتهاوت في نيران وجحيم الموت المستمر في قطاع غزة، فالقانون الدولي على المحك أمام تغول الصهيونية الفاشية البشعة التي تتحدى العالم كله وتسعى لتقويض قواعد هذه القوانين وأحاكمها، وتعيد التاريخ إلى عصور الهمجية والبهيمية والبدائية، تاريخ البشاعة والانحطاط الأخلاقي والإنساني والتي ترقى إلى أكثر من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأبعد من إبادة جماعية ونكبة وتطهير عرقي، إنها حرب على الوجود الفلسطيني وهويته الوطنية والإنسانية، وتستهدف محو الشعب الفلسطيني من الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما تؤكد عليه التصريحات والخطابات اليمينية العنصرية التي رافقت هذه الحرب وأشعلتها والقائمة على نزع الصفة الآدمية عن كل فلسطيني.
لقد ضرب الاحتلال الصهيوني عرض الحائط بالقانون الدولي، وبالقانون الدولي الإنساني، وباتفاقيات جنيف الرابعة وبقرارات الأمم المتحدة، وبقرار محكمة العدل الدولية، غير مكترث بالنداءات والتصريحات والمواقف العالمية التي طالبت بوقف هذه الحرب الدموية، فقطاع غزة تحول إلى هيكل عظمي ومنطقة للأشباح ولا تصلح للعيش الآدمي، كومة من الرماد والأنقاض، ولا زالت غزة تحترق أمام عجز الإرادة الدولية وقرارات الشرعية الدولية الخاضعة للإبعاد السياسية والمصالح والخلل في توازنات القوة مما يجعل القانون الدولي أداة في يد القوي ضد الضعيف، وهذا ما يخالف فلسفة التشريع القانوني الذي يضمن المساواة والقصاص وعدم الكيل بمكيالين مما شجع الاحتلال الصهيوني على ارتكاب أكبر جريمة ومذبحة وكارثة إنسانية في العصر الحديث، وقد ترك الفلسطينيون يواجهون مصيرهم وحدهم دون أية حماية من أية جهة، فأعداد الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين تزداد يوميا ولا يتوقعها العقل، والحياة في قطاع غزة أصبحت كابوسا لا يطاق، ولا يمكن تصوره نتيجة هذا الإرهاب الصهيوني الرسمي والممنهج، لتسقط الآن كل الأقنعة وكل المفاهيم وكل اللغات المزدوجة.
إن هذه الحرب على الشعب الفلسطيني حولت دولة الاحتلال إلى أكبر دولة طاغية ومستبدة في منطقة الشرق الأوسط، والأكثر خطرا على السلم والأمن العالميين، وهي لا تشن حربها الإبادية على غزة فقط وإنما على العدالة الإنسانية والمجتمع العالمي وعلى قيم الثقافة والديموقراطية والكرامة والحريات الإنسانية، إنها تضع العالم ومنظومته الحقوقية تحت رحمة صواريخها وقذائفها وقنابلها واعتداءاتها المستمرة، وإنها لأكبر فظاعة وانتكاسة أخلاقية في تاريخ البشرية أن يتحكم بمصير العالم وبأرواح الأطفال والنساء والسكان المدنيين مجموعة من العصابات المتطرفة، ومن الشاذين والمهووسين والفاسدين ومن ذوي السوابق الجنائية الذين وصلوا إلى سدة الحكم في حكومة الاحتلال أمثال ابن غفير وسموتريتش ونتنياهو وغيرهم، والذين ألقوا على رؤوس الناس في غزة آلاف الأطنان من المتفجرات بما يعادل خمس قنابل نووية، ونراهم يرقصون ويستمتعون ويتصورون ويحتفلون وينشرون الفيديوهات عن البهجة والمتعة بقتل السكان المدنيين وتفجير المنازل وحرقها وإبادة العائلات، يمارسون طقوس سادية انتقامية ونشوة غرائزية حيوانية ومجرمة مصحوبة بالنيران والغارات والاجتياحات والقصف الجوي والمدفعي واستهداف المستشفيات والصحفيين ومراكز الإيواء والمساجد والكنائس، وممارسة التجويع والحصار ومنع المساعدات واستهداف الكوادر الطبية والمسعفين، والتهجير القسري والاعتقالات الجماعية وإعدام المعتقلين وسياسة الإخفاء القسري وسرقة الجثث من المقابر وانتشار الأمراض وتفشي الأوبئة الفتاكة وغيرها من الانتهاكات والجرائم المرعبة، لتموت غزة جوعاً وعطشاً وتشرداً وبرداً وقتلاً ومرضاً، إنها عملية إعدام للحياة ولأكثر من 2 مليون إنسان في قطاع غزة، وقد تكون هذه الحرب أكبر دفيئة لإنتاج آلاف القنابل البشرية من الأجيال الفلسطينية التي ولدت تحت حمم النيران والقذائف وعاشت الفقدان والتشرد والرعب، هذه الأجيال لن تنسى ولن تغفر.
إن الدمار الهائل في غزة غير مسبوق، والخراب طال كل شيء، وبقدر ما يجري من إبادة بشرية وإنسانية فهي إبادة ثقافية طالت معالم غزة التاريخية، واستهدفت تدمير الوجود والموروث الثقافي الفلسطيني، فأكثر من 200 موقع أثري قد تدمر خلال هذه الحرب من أرشيفات ومخطوطات ومراكز ومؤسسات ثقافية، مكتبات وجامعات ومتاحف ومسارح وجداريات وقلاع، تدمير الجوامع التاريخية والكنائس الأثرية والأسواق والأحياء الشعبية، إضافة إلى قتل عدد كبير من الكتاب والمثقفين والفنانين والموسيقيين والشعراء والعلماء ورؤساء الجامعات والأكاديميين والمبدعين، كل ذلك استمرار للسياسة الصهيونية من النكبة حتى الآن القائمة على نهب وسرقة ومحو التاريخ والموروث الثقافي للشعب الفلسطيني وروايته الوطنية وطمس الذاكرة.
الحرب لم تبدأ في 7 أكتوبر 2023، بل بدأت منذ 76 عاماً، السلب والقتل والنهب والتهجير والضم والاستيطان والفصل العنصري والاعتقالات والإعدامات الميدانية والتهويد والعزل، هذه الحرب لازالت مستمرة في الضفة الغربية والقدس وأكثر شراسة وتصاعدت خلال الحرب الشاملة على قطاع غزة من خلال إغلاق المدن وعزلها وتصاعد عمليات الاقتحامات والمداهمات وحملات الاعتقال الجماعية وتعذيب وإذلال المعتقلين ووضعهم في ظروف قاسية وخطيرة، والاعتداء على الأماكن الدينية المقدسة وتزايد اعتداء المستوطنين، والتهجير الصامت لـ 18 تجمعاً سكانياً خاصة في منطقة الأغوار وقرصنة الأموال الفلسطينية والهجوم على وكالة غوث اللاجئين ومحاولة إنهاء خدماتها لشطب العنوان الأممي لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، فالحرب ليست على حماس وإنما على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في أن يكون له دولة حرة وذات سيادة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس، الحرب على شرعية النضال الفلسطيني، ومقاومته المشروعة للاحتلال، ومحاولات تجريم كفاح الشعب الفلسطيني ونزع شرعيته ووصمه بالإرهاب، إنها حرب على القيم والمبادئ الإنسانية جمعاء.
في هذا المؤتمر أدعو إلى تشكيل لجنة من المؤسسات ذات الاختصاص لتوثيق وأرشفة جرائم الاحتلال في قطاع غزة، وعمل ملف قانوني لملاحقة المجرمين الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية والدعوة إلى عقد المحاكم الشعبية الإنسانية، محاكم الضمير في كل عواصم العالم، ولن أنسى أن أشكر دولة جنوب افريقيا على دورها الكبير في محاكمة دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بحق أبناء شعبنا في قطاع غزة.
الحرية لفلسطين
المجد للشهداء
والحرية للأسرى.